16‏/10‏/2008

عودة لحظيرة الديمقراطية ...زهير اليحياوي

لنعترف بأننا ضحايا زمن الفرجة والإثارة، فالإنسان العادي لم يعد يسعى للحقيقة بقدر ما أصبح يكتفي بالصورة التي تعكسها له وسائل الإعلام فلو اجتمع مثلا بضعة آلاف من المتظاهرين في أحد العواصم الغربية للتنديد بالمهزلة التي أقيمت بتونس قبل حدوثها وطالبوا بمقاطعتها أو على الأقل توفير حد أدنى من الضمانات لإنجاحها لكانت النتائج غير التي أعلن عنها ولما تجرأ أصحاب القرار عندنا على الاستهزاء بالشعب التونسي بهذه الطريقة المخلة بكرامة وذكاء شعب بأكمله.لنعترف أيضا أن العولمة نجحت في تشويه صورة جل الإيديولوجيات الفكرية والمذهبية وإلصاق كل العيوب والمساوئ بها حتى لم يبقى خيار غير الانخراط في تجليات النمط الديمقراطي الكلاسيكي الذي يسود جل الدول والأنظمة المسماة بالعالم المتحضر وحتى بين الدكتاتوريات المتسترة بقناع الديمقراطية والقانون مثل نظام 7 نوفمبر اللقيط.لنقر أيضا بأن أي عمل جماعي وأي مشروع شراكة يستحيلان دون اتفاق مسبق حول السبل والأهداف التي تجعل الفرد يتخلى عن نزعته الفردية وحريته لينصهر في بوتقة المجموعة وليتقيد بضوابطها، فتونس ترزح تحت الدكتاتورية وستظل كذلك لفترة أخرى قد تطول وقد تقصر ما لم تظهر كتلة معارضة قوية ومؤطرة قادرة على قلب موازين القوى لصالحها وهي للأسف غير موجودة الآن ولو أن المعارضين والساخطين على النظام موجودين بقدر كافي يسمح بقيام تكتل واسع ومؤثر قادر على قلب موازين القوى رأسا على عقب، فالمال الذي هو قوام كل عمل بشري بقطع النظر عن منفعته أو ضرره سلاح يجابه به النظام التونسي كل منتقديه ويقهرهم فالواقع يشير أن المعارضة الحالية تعوزها الإمكانيات الشيء الكثير بالإضافة كونها تجهل كيفية الحصول على التمويل الذي يضمن لها استقلاليتها دون الانغماس في أنشطة مشبوهة تعود عليها بالوبال وتعيقها عن القيام بواجبها على النحو الأكمل.خلال متابعتي للحملة الانتخابية ترددت على مسامعي، خاصة من خلال القنوات الفضائية العربية، عبارة المعارضة الافتراضية مرات عديدة جدا من قبل أنصار الحزب الحاكم ومن والاهم من أحزاب الإدارة ومنظماتها، والذي شد انتباهي أكثر هي الأوصاف التي ألصقت بها من نوع "معارضين شواذ"، "معارضة منفصلة عن الواقع التونسي"، "معارضة لا تمثل شيئا" ... والشيء الغريب أن كل هذه التهجمات المجانية تمت بلهجة متشنجة وعنيفة تخفي رغبة كبيرة في التشفي والانتقام وهو أمر يدعو للتعجب حقا فلو كانت هذه "الزمرة الضالة" لا معنى لها ولا وجود، لماذا يضيع هؤلاء الشخوص وقتهم وجهدهم في التعريف والتشهير بها لدى مختلف المتتبعين وهي التي لم تكن حتى طرفا في اللعبة الانتخابية. خلاصة القول هنا ليس مدح هؤلاء "المعارضين الافتراضيين" أو الرفع من شأنهم ولكن إبراز وجودهم الفعلي وتأثيرهم النسبي في الساحة رغم محاولات النظام الدكتاتوري البائسة لوأدهم وعزل من منهم في المهجر عن الباقي الموجود بالداخل.التساؤل الذي يطرح نفسه بعد كل هذا التمهيد هو لماذا لا تتحول "الكتلة المتفرقة" المسماة جزافا "معارضة افتراضية" إلى كيان يسمح بخلق رادع للدكتاتورية وبديل قادر على إقناع أهل وشركاء تونس بأن النظام الحالي ليس الخيار الوحيد المتوفر حاليا ؟


الواقع والموجود-

المعارضين الغير منضوين تحت لواء أي حزب أو منظمة وطنيتين عدد غير هين وأفرزوا في السنوات الأخيرة كفاءات من الغير المعقول أن تفتقد إطارا قادرا على جعلها تأخذ بزمام المبادرة وتقدم الإضافة المرجوة منها، فعدد غير يسير من المعارضين المستقلين وأغلبهم من الشباب يرفضون كل الأطر الموجودة ولازالوا يبحثون عن المكان الأمثل القادر على جعلهم يشقون طريقهم بثبات نحو الإنعتاق من أغلال النظام الحالي.- المعارضة المستقلة هي التي تتحكم الآن بوسائل الإعلام المحلية الأكثر تأثيرا في فضح الدكتاتورية ومساوئها وان كانت كلها تقريبا تنشط على شبكة الانترنت.- الإطار الجامع لهؤلاء المعارضين يسير نحو التكوين بخطى متزنة وهو ما يعرف ب"الحظيرة الديمقراطية" والتي ساهم في بلورتها جملة من المعارضين الراغبين في الرقي بالنضال ضد الدكتاتورية نحو فضاءات أرحب ولكنها بالمقابل لاقت تجاهلا غير مبرر من أغلب مكونات المجتمع المدني.- التمويل هو العائق الأساسي والأكبر وراء ضعف أداء هذه المعارضة ونقص تمثيليتها في الوقت الحالي.- بناء قطب جديد يتطلب نسيان كل الخلافات التي حدثت قبل 24 أكتوبر 2004 والقيام بمصالحة حقيقية للانصراف نحو المستقبل فالثقة المتبادلة، المنعدمة حاليا أو تكاد، شرط أساسي لكل عمل ناجح وطويل الأمد.- الوجود المادي والقانوني لهذا الإطار يجب أن يكون بالأساس خارج ارض الوطن بعد أن تبين بالمكشوف انه من المستحيل قيام معارضة فاعلة في تونس دون القبول بتنازلات مخلة بالمصداقية أو الشرف والمبادئ ومن ناحية أخرى النشاط انطلاقا من المهجر يسمح للمعارض بحماية لا يمكن أن تتوفر له بتونس ويجعله بمنأى عن تشفي الدكتاتورية وانتقامها.- المعارضة السياسية والجمعيات الحقوقية التي تتمتع بالمصداقية يرغب أهلها في تسليم المشعل للجيل الصاعد ولكن الواقع يبين أن هذا الجيل مفقود أو استقر قسرا بالمهجر وهو ما جعل البعض يجزم أن النشطين الحاليين هم سبب البلية بينما الواقع يدفعنا جميعا للإقرار بان تسليم المشعل وضخ دماء جديدة ليس يسيرا وسهلا بالطريقة التي يتصورها البعض.- المستقلين من المعارضين تمكنوا من ربط قنوات تواصل مع الجهات المؤثرة في الرأي العام يحسدهم عليها النظام وحتى بعض أطياف المعارضة الأخرى.- بناء حلف جديد لا يعني إعلان حرب على ما هو موجود بل هو مساهمة في دعم الحركة الاحتجاجية والإصلاحية لان كيان المعارضة التونسية لا يزال وللأسف حد الساعة في طور التبلور والتنظيم.


حلول... أم أحلام يقظة
الواقع علمنا بأن من يحلم بكبير الأشياء لابد له أن يحقق على الأقل صغيرها لذا من غير المعقول أن يخجل من نفسه أو يتقوقع في ضفته كل من يتدارس السبل التي تمكن من القضاء النهائي على النظام التونسي الفاسد، فالنقاش وتطارح الأفكار السبيل الوحيد للتقدم ولو كانت هذه الاقتراحات تعتبر غالبا عسيرة المنال وصعبة البلوغ وتدفع حقا دارسها للإحباط.المادة الخام، والمعذرة على العبارة، موجودة وهو ما يسمح بطرق السبل الكفيلة بلم شملها لجعلها تنخرط في مسار تحرير البلاد من هيمنة الحزب الواحد واكتساح مواقع قدم في خطوط المواجهة مع الدكتاتورية وذلك عبر تجسيد أحلام طالما راودت الكثير منا.

لماذا إطار آخر؟
لأن الواقع يرفض الجمود والخمول... لأن البقاء مكتوفي الأيدي لن يزيد الأمور إلا تعقيدا... لأن الأطر الأخرى أسستها ظروف مخالفة للتي نعيش... ولأن جيل الاستقلال مل الانتظار والترقب كان لزاما طرح مسألة تكوين إطار مختلف عن السائد والمألوف وهذه صورة تقريبية وغير نهائية لما يجب أن يكون :- منتدى لا يقبل غير من يتقيد بأهداف "الحظيرة الديمقراطية" وأهمها الحرية والمساواة والعدالة للجميع.- تكتل يكون وينشئ جيلا يعي ويتمرس على معاني التسامح واحترام الآخر وينبذ التمييز والتفرقة والتعصب الديني والعرقي.- تنظيم مفتوح لكل من يرغب في النهوض بمسار الإصلاح في تونس بقطع النظر عن لغته أو جنسه أو دينه أو انتمائه الجغرافي ولا يخضع للقانون التونسي المجحف وتعدياته الصارخة على حقوق الفرد والمجموعة بل لضوابط البلد الذي يؤويه وقوانينه.
التمويل مرة أخرى
!عبث حقا أن يتواصل الواقع على ما هو عليه ومن غير المعقول أن يتواصل إهدار الطاقات والجهود بهذه الطريقة فالواقع يفرض علاوة على توحيد النضال ضد الدكتاتورية توفير الأسباب لنجاحه وديمومته ويبقى وجود التمويل الذي يسمح بإعلاء الكلمة وإيصالها الوجهة المثلى مطمحا لا غنى عنه وهذه بعض المقترحات :- وجود دوريات ورقية تساهم فيها خيرة الأقلام هدفها تحسيس المزيد بضرورة تغيير الوضع البائد وإعطاء واجهة أرقى للمعارضة علاوة على أنها توفر مدخولا ماليا يصلح لتنظيم أنشطة أو ندوات للم الشمل.- تنظيم ملتقيات وحفلات ومعارض للفن الملتزم تكون فرصة لمزيد انتداب المترددين وإقناعهم بالانخراط في المسار الإصلاحي دون إغفال مردودها المادي الجيد.- إحداث نوادي شبيهة لفضاءات "المرأة والجيل الثاني" التي أطلقتها الدكتاتورية في كل تجمعات التونسيين بالمهجر وهدفها الرد على بوق دعاية الدكتاتورية وفضحها علاوة على أنها تأسس للحمة متينة بين المعارضين وتساهم بتوفير مردود مادي محترم.- مقاطعة الدكتاتورية ماديا بالداخل والخارج وعدم التعامل ماليا مع غير المعارضين.الأفكار عديدة وأغلبها قابل للتطبيق الفوري لو وجدت الإرادة الصادقة والرغبة الحقيقية في خدمة هذا البلد.
زهير اليحياوي 28-10-2004

ليست هناك تعليقات: