23‏/10‏/2008

سيدة تونس الأولي في رسالة ألي وزير التربية

رسالة السيدة نزيهة رجيبة (أم زيـاد)
إلى وزير التربية والتكوين
dimanche 12 octobre 2003.

"المدرسة التونسية في خطر سيتفاقم ما لم يدركها إصلاح حقيقي يكون محلّ اتفاق جميع الأطراف المعنية بالشأن الوطني"
السيدة نزيهة رجيبة (أم زيـاد) تستقيل نهائيا من التدريس وتطلق صرخة فزع مُـدوية في رسالة تاريخية إلى وزير التربية والتكوين
تونس في 25 سبتمبر 2003
من نزيهة رجيبة حرم الجلالي أستاذة مبرّزة في العربيّة تباشر التدريس منذ سنة 1969 وتعمل حاليا بالمعهد الثانوي بالمنزه السادس.
إلى السيد وزير التربية والتكوين
الموضـــــــوع : تقديم استقالة من العمل ولفت انتباه إلى أوضاع المدرسة التونسيّة.
السيد الوزير
تحيّة طيبة وبعد ،
لن أكتب - وفقا لما تقتضيه آداب المراسلة- "يشرّفني أن أكتب إليك رسالة استقالتي من العمل" فأن تُقدم استاذة مثلي وبعد طول تردّد على الاستقالة من التدريس ليس فيه ما يسرّ ولا ما يشرّف بل فيه ما يبعث المدرّس على الشعور بالحزن ومرارة الفشل وما هو جدير بأن يبعث المسؤولين عن المدرسة الوطنيّة على محاولة فهم ما يحدث ومصارحة أنفسهم بحقيقته بعيدا عن الخطاب الانتصاري والمفاخرة بالمكاسب وتناسي المساوىء حتّى تزداد سوءا وتستعصي على كل إصلاح.
السيد الوزير ،
إنّ في هذه الاستقالة الخارجة عن المألوف كلاما كان يمكن أن يقوله مئات بل آلاف الزميلات والزملاء لو ساعدتهم ظروفهم على كتابته مثلما ساعدتني ، فأنا أستاذة أشرفت على التقاعد فلم يعد لها شيء كبير تخسره وأنا مواطنة قرّرت أن تعيش مواطنتها كاملة بما تعني المواطنة من حريّة وشجاعة وانشغال بالشأن العام وبما تعنيه أو بالأحرى برغم ما تعنيه في بلدنا من مغامرة وتعرّض للعقاب على ممارسة الحريّة.
لهذا قرّرت سيّدي الوزير أن تكون رسالة استقالتي نصّا طويلا ومصارحة بما عشته من تجارب وما تفاعلت معه من وقائع اكتبها بصدق ونزاهة عساها تكون آخر خدمة يقدّمها شخصي المتواضع إلى المدرسة التونسيّة التي خدمتها بما أتيح لي من قدرة طيلة عقود من الزمن.
السيد الوزير ،
لقد التحقت بالتدريس بعد تخرّجي من دار المعلّمين العليا عام 1969 ، التحقت به عن اختيار وتصميم وإيمان برسالة المدرسة والمعلّم. ولئن وضعتني البيروقراطيّة وتمرّدي عليها في مواجهات عديدة لا تخلو من حدّة مع إدارات بعض المعاهد فإنّ ذلك لم يؤثّر إلاّ على سير حياتي المهنيّة وعلاقاتي مع الادارة بينما بقي آدائي لواجبي على الصورة التي أردتها له : فقد استطعت أن أحافظ على هذا الآداء لشعوري العميق بأنّي وأنا في قسمي رئيسة نفسي وغير مسؤولة أمام أحد إلاّ ضميري وتلاميذي وحسّي الوطني الذي يصوّر لي التعليم ضربا شريفا من ضروب النضال ، وبهذه المقاربة لوظيفتي أمكنني الظفر بحبّ التلاميذ وثقة أوليائهم كما أمكنتني النجاة نسبيا من عنهجيّة بعض المديرين والمتفقّدين الذين لا يرضون عن الأستاذ إلا متى ألغى شخصيته وخافهم وتقرّب منهم وآنذاك تراهم يقرّبونه ويسعون إلى ارتقائه ولو بغير كفاءة واستحقاق.
وللأمانة أقول هنا إنّ أغلبيّة زملائي لا ينحدرون إلى حضيض التزلّف والتملّق كما أنّ بعض المديرين والمتفقّدين ينزّهون أنفسهم وزملاءهم عن دفع هذه الضريبة من كرامتهم ويسيرون على نهج الاستقامة في تقدير الكفاءات والتعامل مع المرؤوسين... ولكنّ هؤلاء قلّة قليلة وسط الرداءة العامة التي انتجتها سياسة اختيار المسؤولين بحسب الولاء قبل الكفاءة.
السيد الوزير ،
لقد عرفت المدرسة التونسيّة عن قرب وهي في دوّامة الاصلاحات وإصلاحات الاصلاحات التي لم تنقطع إلى يومنا هذا والقائمة على الانفراد بالرأي والاختيارات الاعتباطيّة وفي النكوص عنها بصفة اعتباطيّة أيضا مضحيّة أثناء كل ذلك بآلاف التلاميذ والتلميذات الذين لفظتهم المدرسة كما يلقي الباحث العلمي بفئران المخابر بعد فراغه من التجريب عليها.
ولعلّ أكثر ما صدم عيني الجديدة التي ألقيها على واقع المدرسة التونسيّة هذا أنّ الأستاذ بما هو الحلقة الأضعف في جهاز التعليم يُحمّل المسؤوليّة الأكبرفي فشل ما اختاره رؤساؤه بينما يُنسى في حال استعراض النجاحات وخاصة المكافآت عليها ويُهاجم بشدّة إذا طالب بحقوقه.

لقد بدأت مبكّرا ردّ الفعل على المظالم المسلّطة على الأستاذ فكتبت في صحف أوائل الثمانينات لمّا كانت لنا بعض الصحف التي يُكتب فيها مدافعة عن سلكي ومطالبة بحقّنا في التقدير وكانت الغاية من كتاباتي شخصيّة على نحو ما لأني أردت أن احتفظ بتفاؤلي وأبقى على إيماني بجدوى الوظيفة النبيلة التي اخترتها وأحببتها. وبهذا التفاؤل استطعت- مثل عدد من زملائي- أن أبني لنفسي عالما خاصا مكّنني من المضيّ في أداء واجبي رغم كثرة الصعاب ولعلّ أشقّ هذه الصعاب هو فرط الاحساس بظروف العمل والوعي الحادّ بالمحيط العام الذي يؤثّر سلبا على الأستاذ الواعي ويحمله على فقدان الإيمان بجدواه وعلى الوقوع في العدمية القاتلة لمواهبه وطموحاته فيصير بائع معارف وملقّن محفوظات لا صانع أجيال وصاقل عقول ونفوس وهو ما ينبغي له أن يكون.

وبذلك التفاؤل أمكنني كما أمكن عددا من زملائي تجنّب الوقوع في طاعة عمياء لسلطة إشراف هي الأخرى منقادة ومستطيعة بغيرها وفاقدة لحرية المبادرة ممّا مكّنني من مواصلة أداء رسالتي على أكمل وجه متاح.
وفي هذا العالم الخاص تمكّنت كما تمكّنت قلّة قليلة من زملائي - فسلكنا تنقصه الشجاعة مع الأسف أو هو سلك متجاهل لقوّته - من تحدّي القرارات الفوقية غير المنطقية ولا التربوية التي تلزم الأستاذ بأن يكون بوق دعاية سياسية فجة واضعة ايّاه أمام خيار مستحيل بين الخوف على خبزة أولاده أو التضحية بهيبته ومصداقيته أمام تلاميذه وهذا يعني التضحية بالمدرسة برمّتها التي ليست الدعاية السياسية وظيفتها بل هي مخالفة لرسالتها في تربية النشىء على استقلالية الفكر والموقف وضارّة بالمتعلّم ومزرية بالمعلّم إذ تجعل منه طبلا أجوف لا مرجعا فكريا وروحيا جديرا بالاحترام والتقدير كما ينبغي له.

وبهذا التصوّر النبيل لوظيفتي أمكنني المضي في طريقي دون تأثر حاسم بما كنت ألحظه ويلحظه زملائي وزميلاتي من تدهور المدرسة التونسيّة عقدا بعد عقد ومن تدنّي مستوى التلاميذ المعرفي والأخلاقي عاما بعد عام ومن انحطاط قدر إطار التدريس وما أحاط به شهرا بعد شهر ، وهذا ما جعلني إلى حدود نهاية السنة الدراسية الفارطة أقاوم رغبتي المتنامية في تقديم استقالتي معتبرة ذلك فرارا من ساحة المعركة.
وهذا ما جعلني أرى في نفسي إلى وقت قصير مضى دينصورا من دينصورات جنس منقرض من الأساتذة الواثقين من جدواهم المتمتّعين بهيبة المعلّم وقدره العالي.
وقد أصابني بعض الأحيان شيء من الغرور الصامت والاستعلاء على زملائي "العاجزين" عن فرض أنفسهم وأداء رسالتهم كما يحقّ لها أن تُـؤدّى... ولكن هيهات.

لقد أيقظني الواقع الأليم من حلم ما كان له أن يكون لأجد عالمي القديم قد تهدّم دون أن تبقى فيه دينصورات ناجية من زحف الرداءة التي آجتاحت المدرسة التونسية في العشرية الأخيرة لأنّ المدرسة التونسية ، والحق يقال ، ظلّت رغم النقائص محتفظة بهيبتها عاملة على تخريج أجيال من حاملي الشهادات المعترف بجودة مستواها خارج حدود بلادنا وكان ذلك راجعا بلا ريب لتحمّس جيل ما بعد الاستقلال من الأساتذة وإيمانهم بأنّ تعليم الأجيال هو المدخل الأساسي لرقيّ المجتمع الذي ينتمون إليه كما كان راجعا وبلا ريب أيضا إلى جدّية نظرة المسؤولين عن قطاع التعليم إلى وظيفتهم من وزراء حافظوا على الحدّ الأدنى من استقلالية قرارهم ومديرين ومتفقّدين اعتبروا أنفسهم مربّين قبل أن يكونوا موظفين عليهم واجب الطاعة والخضوع .

كان الباعث على ما انتابني من شعور أليم ومفاجىء بأنّ المدرسة التونسية قد تدهورت أوضاعها بما لا يدع مجالا للأمل هو تعرّض زملاء لي أواخر السنة الدراسية الفارطة للعنف البوليسي البدني والمعنوي لا لشيء إلاّ لأنهم نقابيون وقفوا أمام باب سلفك ليقولوا له كلاما لعلّه مماثل لما أكتبه في هذه الرسالة وليطالبوا بحقوقهم وحقوق زملائهم. عندها صحوت من حلمي الشخصي وفهمت أنّي لم أكن محقّة في اعتبار نفسي استثناء بين زملائي فنحن جميعا نعيش أوضاعا واحدة بمؤهلات متقاربة ومعنيون بواقع واحد عبّر عنه أعوان البوليس الذين ضربوا زملائي وزميلاتي ليقدّموا الصورة الحقيقية للمعلّم في تونس اليوم. معلّم يضربه تلميذه في قسمه ، ووليّ تلميذة في مدرسته وتضربه دولته أمام وزارته. وخلاصة هذه الأوضاع وغيرها كثير هي أنّ منزلة الأستاذ صارت في مدرستنا الحالية منزلة مهينة أكثر من أيّ وقت مضى وهي انّ الأستاذ صار في ا لحضيض باستثناء أقلَـية يجوز أن نسمّيهم أرستقراطية الأساتذة الذين يدرّسون المواد العلمية في أعلى مستوى ومن ثمّ فهم يمسكون بما يسمّيه التوحيدي " سلّة الخبز " أي ما به يكون التخصّص النبيل والمربح.
السيد الوزير ،
لقد تركت الحادثة المذكورة في نفسي أبلغ الأثر وأشعرتني بأنّ المدرسة التونسية تهين أعوانها أو تسكت على إهانتهم وبأنها لم تعد تُطاق.

وذلك ما جعلني أسعى طيلة الصائفة الماضية إلى تسوية وضعيتي وترك العمل قبل الأوان آسفة عليه من جهة وغير آسفة عليه من جهة أخرى ، ولكن بقرب موعد العودة المدرسية في السنة الحالية عاودني الحنين إلى جلبة القسم ورائحة الورق الجديد والطباشير وإلى مكتب الأستاذ ومصطبته أخاطب من عليائهما عقولا فتية لتكـبُر وشخصيات شابة لتنضُج وأشرف من أعلاهما على خلاصة المجتمع التونسي بسلبياتها وإيجابياتها شاعرة أثناء ذلك بأنّي أؤدّي خدمة ما تزال مطلوبة وأنهض بمهمّة تبقى نبيلة برغم كل شيء .

غير أن دخول القسم فعلا أشعرني بالدَوار والغثيان وجعلني أعي نهائيا بأنه لم يعد هناك مجال للتشبّث بحبال أمل مقطوعة تمنعني تجربتي الطويلة من تجاهل حقيقتها. ولهذا قرّرت الاستقالة بعد أسبوع واحد من المباشرة لأواصل خدمة بلادي بما فيها المدرسة العزيزة على قلبي بوسائل أخرى وفي مجالات أخرى.
السيد الوزير ،

إنّ وقوفي في قاعة الدرس في مفتتح هذه السنة لم يكن في ظروف كارثية ولا خارجة عن المألوف ولكنّه أوقفني على حقائق تسلَحت بالتفاؤل لتخطّيها وخلاصتها أنّ المدرسة التونسية مريضة حقّا وأنها تنقل عدواها إلى كل ما له بها صلة.
ولنبدأ بالتلاميذ ودعني أيّها الوزير أصف لك قسما من أقسامهم في معهد المنزه السادس ذائع الصيت وهو من الأقسام " المحظوظة " بجودة التوجيه ناهيك أنه قسم الثالثة رياضيات وما أدراك ما الرياضيات : أربعون تلميذا وتلميذة لم تكف المقاعد المتداعية لجلوسهم في قاعة الدرس المتداعية هي الأخرى.
أمّا التلاميذ أنفسهم فقد رأيت فيهم أكثر من أيّ وقت مضى وبرغم ألبستهم الفاخرة والسيّارات الفارهة التي تقلهم إلى المعهد ، أربعين مسكينا ومسكينة.
تلاميذ يعيشون وهْم التخصّص في العلوم الصحيحة في مدرسة تُـعلّم الكيمياء كما تشرح النصوص الأدبية أي بلا أختبار ولا تجريب وفي بلاد يجلس فيها المهندسون وراء مكاتب البيروقراطية واللاَجدوى تماما كما يجلس غيرهم من الموظفين من خرَيجي العلوم الانسانية.
تلاميذ أضاعوا لغتهم كما شاءت لهم بورصة الضوارب والخطاب الرسمي المتبنّي "للحداثة" دون أن يكسبوا غيرها من اللغات.

تلاميذ فقدوا إحساسهم بقيمة العلم في حدّ ذاته وقيمة المعلَم الذي يسديه فصاروا ينظرون إلى العلم ومسديه نظرة نفعية لا روح فيها ترسّخ هذا العلم وتجعله أساسا لبناء شخصية متعلّمه.
تلاميذ يحتقرون العلوم الانسانية ولا يعرفون شيئا إسمه القراءة والثقافة العامة (أندادهم في أغلب بلدان العالم يقرأون ويتثقّفون) كما شاء لهم تصوّر غير سويّ لوظيفة المدرسة وانخراط في العولمة المتوحّشة حوّل ويبدو أنّه سيحوّل أكثر المدرسة التونسيّة إلى مصانع تنتج بضاعة لسوق الشغل أو البطالة أكثر ممّا تنتج لهذا البلد مواطنين واعين بمكانتهم في الوجود وطامحين إلى تحسينها، لهم حسّ وطني وانساني راق يقوم على القيم والمبادىء قبل قيامه على المصالح والمنافع ويدعوهم إلى الأثرة و التفكير في الصالح العام قبل دعوتهم إلى الأنانية والانكفاء على الشأن الخاص.
تلاميذ فاقدون للوعي بهويتهم مستخفّون بها تتقاذفهم أهواء التشبّه بالآخر الذي يخفي وراءه احتقارا للشخصية الوطنية واستهانة برموزها ناهيك أنّهم يستقبلون النشيد الوطني والبنات منهم يطلقن قهقهات الغواني والأولاد يلقوْن رمز وطنهم باطلاق الأصوات البذيئة التي نعرف.

تلاميذ لم يعودوا يفهمون إلاّ منطق المال والقوّة الغاشمة والغلبة والبقاء لمن هو أكثر شراسة قدوتهم في الحياة الطفيليات التي نبتت وتكاثرت في الأرض التونسية تُـسوّق لنموذج النجاح المادي القائم على السلب والنهب والمخاتلة فتطمس به مثال النجاح الحقيقي القائم على طلب العلم والصبر على تحصيله وعلى العمل الشريف وكسب الرزق من أبوابه المشروعة ولهذا ترى تلاميذنا قد استشرى في أوساطهم الغش بصورة غير مسبوقة بعد أن صار الغش والتدليس والمخاتلة قوام كل شيء في حياتنا.

لقد كنت في أعوام خلت أفاخر بأنيّ من الأساتذة الذين لا يعجزهم التفاهم مع الأجيال الجديدة ولو بلغة أهل المريخ وأقرّ اليوم بعجزي التام عن التواصل مع هذا الجيل الجديد من التلاميذ نتاج المدرسة التونسية المنكوبة بأيّة لغة من اللغات عدا لغة القمع التي قد يفهمونها ولكنّي أكرهها.

هذا أيها الوزير غيض من فيض واقع تلاميذنا لم أذكر لك فيه إلاّ صورة عامة لجمهور التلاميذ في البلاد التونسية ولم أدخل أثناء عرضه في التفاصيل المتعلّقة بخصوصيات معاهدنا في الجهات أين يزداد الطين بلّة بفعل الفقر والشعور بالاحتقار والغبن فيترجم كلّ ذلك إلى عنف ونقمة على المدرسة التونسية التي لا تعدل بين أبنائها فتقود المهمشين منهم إلى إرادة تحطيمها وتخريبها واضرام النار في حطام تجهيزاتها البائسة.
أمّا المدرسة، فهاك أيّها الوزير غيضا آخر من فيضها :

هذه المدرسة واجهتها طلاء وأصباغ وزهور من البلاستيك وخلفيتها بناء وتجهيزات، إذا تداعت لا تتجدّد وإذا فسدت لا تصلح. تُـصفّر الرياح في خرائب بلَور نوافذها المهشّمة وترتع في شقوق جدرانها الفئران والزواحف (نعم) معلنة ألاّ كرامة ولا تكريم للمعلّم ولا للمتعلّم ولا خوف على صحتهما.

هذه المدرسة المعدّة لاستيعاب المئات ولكنّها تكره على استيعاب الآلاف فيتراصون فيها ويتدافعون ويصبح التحاق الأستاذ فيها بقاعته البعيدة سفرا شاقا قد يعرّضه إلى حوادث الطريق.

هذه المدرسة المفتقرة إلى إطار القيّمين والقيّمات رغم بطالة الآلاف من الشباب المؤهلين لتأطير التلاميذ، والتي تتحوّل أروقتها إلى حلبات مصارعة وقاعاتها إلى قاعات للعب الورق وغيره من وسائل التسليّة معلنة عن إصابة التعليم في تونس بجراثيم التسيّب الأخلاقي والعنف اللفظي والمادي وحتّى الإجرام.

هذه المدرسة التي صارت المعرفة تباع فيها وتشترى معلنة أن التعليم ليس مجانيا ولا ديمقراطيا كما يقال وأنّ المكان المعدّ مبدئيا لتلقين مكارم الأخلاق والوقاية من توحّش المادَة قد صار سوقا معولمة يستأسد فيها ذو المال ويُـحرم فيها الفقير من أبسط حقوقه.

هذه المدرسة التي صار النجاح فيها قابلا للتزييف خاضعا لإرادة سياسية تريد الإيهام بتحسّن النتائج طلبا للدعاية فتنعم بالشهادات بطرق مختلفة بقدر ما هي ملتوية ونتيجة ذلك هي تدهور المستوى العلمي لشهائدنا وتخرّج أجيال من أنصاف المتعلّمين وهم شرّ من الجهلة.

هذه المدرسة التي فقدت إداراتها جزءا كبيرا من حسّها التربوي والبيداغوجي لتلعب أدوار الشرطة في الضبط والربط والتجسّس على إطار التدريس وإحصاء حركاته وسكناته وتحسيسه بأنّه ليس حرّا كما ينبغي له وليس مهيبا كما يجب أنّ يكون لينجح في مهمته التربوية.

هذه المدرسة التي يختار أغلب مديريها على أساس الولاء والتحزّب لا على أساس الكفاءة فيتحوّلون إلى أجهزة للدعاية السياسية المعلنة وحشد التأييد لزيد أو عمرو وجمع التبرّعات من التلاميذ والأساتذة بالإكراه والتخويف لمشاريع تضامنية ليست مقنعة لهم بالضرورة.

هذه المدرسة التي صار فيها المديرون مستطيعين بغيرهم لا يملكون حرية المبادرة ولا يتحرّكون إلاّ بالتعليمات خوفا على وظائفهم (لقد أعلمني مدير معهدي يا سيدي الوزير أنّه لن يتسلّم منّي هذه الرسالة وبالتالي لن يبلّغها لأنّه –كما أتصوّر- يخشى أن يتّهم بلمس أوراقها فيكون متواطئا معي في كشف الحقائق).
هذه المدرسة التي يتسلل إليها دخلاء لا وظائف لهم معلومة ولا عمل لهم إلاّ التحرّك في كل اتجاه والتلصّص على ما يتحدّث به الأساتذة أثناء فترات استراحتهم خاصة متى كان هؤلاء الأساتذة من النقابيين أو المناضلين السياسيين والحقوقيين الناشطين خارج وصاية الحزب الحاكم.

هذه المدرسة التي لا يدخلها الأستاذ إلاّ بتزكية غير مصرّح بها من وزارة الداخلية فيما يسمّى "الكاباس".
أمّا الأستاذ في مدرستنا فهذه الرسالة جزء من لسان حاله ولعلّه ليس بالجزء اليسير ومع ذلك فلو أردنا التعيين وذكر طرف من بؤس ظروفه لأمكننا الجزم بأنّه الطرف المهمّش في المنظومة التربوية رغم أنّ دوره فيها رئيسي وأنّ انهيار كيان سلك الأساتذة سيكون به انهيار شامل ونهائيّ للتعليم برمّته وخراب له سيتطلّب اصلاحه عشرات العقود.
فالأستاذ هو الواقع تحت ضيم الضغوط المادية العائدة إلى ضعف أجره والمؤثّرة تأثيرا بليغا في نظرة تلاميذه إليه ونظرة المجتمع بصفة عامة.

وهو المحروم من الإنصاف في مختلف شؤونه من تسميات بمراكز العمل وترقيات ونقل ، وقد رأيت بأمّ عيني في إدارة من الإدارات الجهوية للتعليم عروسا باكية وحنّاء عرسها ما تزال بعدُ على كفَـيها لأنها قوبلت برفض طلبها في الالتحاق بمركز عمل زوجها الذي كان أستاذا هو الآخر ووقع تعيينه في جهة بعيدة عن مركز عملها في حين كانت زميلة لها على بعد خطوات في مكتب مسؤول يخيّرها بين معهدين متقاربين من معاهد الضواحي الراقية للعاصمة ولمّا يراها تردد في الاختيار يمكّنها من هاتف الإدارة لتستشير زوجها ولا شكّ أنّ مشاكل مثل هذه الزميلة المتعلّقة بالاتصالات الهاتفية قد حُـلّت اليوم بانتشار الهاتف الجوال ولكن الأخرى وأمثالها من بؤساء السلك مازال عليهم أن يرضوا بما قدّرتـه لهم الإدارة الجائرة حامدين الله على أنّهم وجدوا الشغل بينما الآلاف من أمثالهم يتسكّعون في شوارع البطالة.
والأستاذ هو الموصى عليه في كافة أموره بدءا بطريقة معيّنة لأداء درسه مرورا بما يجوز له وما يحرّم عليه من لباس بغير وجه حقّ وصولا إلى الكلام بآسمه دون إذنه واتخاذ مواقف سياسية بالنيابة عنه في تأييد تنقيح الدساتير وترشيح هذا أو ذاك لمنصب سياسي.

وقد تنج عن هذا كلّه وعن غيره مما لا تتسع هذه الرسالة لذكره أن صار جمهور الأساتذة مستقلّين لقيمتهم يكثرون من جلد ذواتهم ومن التعبير عن التسليم باالمقدّر لهم جاهلين أثناء ذلك أنّهم قوّة حقيقية من حيث العدد والدَور والقيمة المعنوية وقادرون على تغيير مصيرهم بل مصير البلد كلّه إلى الأحسن.

السيد الوزير ،
قد يبدو لكم أنّي ألقي الحجارة على المدرسة التي لم أعد أطيق البقاء فيها وأنّي أبالغ وأهوّل في تصوير نقائص المدرسة التونسية وأنني بالتالي صوت نشاز لا يعبّر عن رأي الأساتذة التونسيين في مدرستهم.
وإنّي أقول إنّ كل ما كتبته في هذه الرسالة كلام ردّدته كثيرا في كتاباتي وسأواصل الجهر به سواء أكنت داخل المدرسة أم خارجها فالمدرسة التونسيّة مكسب يعزّ على كل تونسي يحبّ بلاده خاصة إذا كان هذا التونسي معنيّا - مثلي- عن قرب بمشاغل التعليم ومقدّرا لدوره الحاسم في تقدّم أو تخلف المجتمع وفي بناء المواطنة أو القضاء عليها وليس صوتي - فيما أعتقد - نشاز يعبّر عن رؤية ذاتية للمدرسة التونسية بل أغلب الظن أن هذه الرسالة كان يمكن أن يكتبها أي زميل آخر لو أتاحت له الظروف كتابتها ولا ريب عندي في أنّ مئات بل آلاف الزملاء سيقرأونها ويوافقون على ما فيها بل لا يستبعد أن يعيب عليّ الزملاء والزميلات التقصير والانتقائية في توصيف أمراض المدرسة التونسية وهذا يعني أنّي لم أبالغ ولم أهوّل بل قلت جزءا من الحقائق التي لا يمكن أن تراها أيها الوزير من وراء نافذة مكتبك البعيد الذي يُضرب الأساتذة إذا اقتربوا منه كما لا يمكن أ ن ترى هذه الحقائق أثناء زياراتك لبعض المؤسسات التربوية محاطا بالوالي والمعتمد ورئيس الشعبة يقودك في زيارتك أدلاَء لهم خبرة بإظهار محاسن التزويق والتلميع وبإخفاء المقابح والمعايب والنواقص التي لو رأيتها يوما كما أراها ويراها زملائي ولو عايشتها مثلنا لربما استقلت أنت أيضا من منصبك يا سيدي الوزير.
لكل ما تقدّم ولكل الأسباب التي شرحتها في هذه الرسالة ولغيرها ممّا لا يسع المجال لذكره أقدّم لك سيّدي الوزير استقالتي من مهنة التدريس بالمعاهد الثانوية التونسية استقالة نهائية لا رجعة فيها.

وإني إذ أقدَم هذه الإستقالة لا أبغي من ورائها فقط الخروج من جحيم المدرسة التونسية التي لم يعُـد قلبي يطاوعني على رؤيتها وهي تتداعى بل أريد من هذه الإستقالة في المقام الأول أن تكون حركة رمزية متحضَرة تقول لمن يريد أن يسمع أن المدرسة التونسية في خطر سيتفاقم ما لم يدركها إصلاح حقيقي يكون محلّ اتفاق جميع الأطراف المعنية بالشأن الوطني لا فعل طرف واحد بعينه ، كما أريدها أن تكون شكلا متواضعا من أشكال مساندتي لزملائي وزميلاتي خاصة منهم الشباب والنقابيون حتى يدافعوا عن مدرستنا الوطنية بصوت مسموع وبعزائم لا يثنيها خوف ولا طمع .
والسلام
نزيهة رجيبة –أمّ زياد-

Kalima

سيّدة تونس الأولي ...مرّة اخرى أمام المحكمة



رسالة مفتوحة من أمّ زياد إلى قاضي البلاد

31- ديسمبر 2003
إلى السيد محمد الصغير الشرعبي رئيس الدائرة الرابعة عشر لمحكمة الاستئناف بالعاصمة, وإلى جميع قضاة تونس من خلاله إذا أرادوا قراءة هذه الرسالة.
سيّدي الكريم تحيّة طيّبة وبعد, إنّي المدعوّة نزيهة رجيبة (أمّ زياد) : المربيّة والكاتبة التي أصبحت صفتها الجديدة في سجلاتكم "المتّهمة" أكتب إليك هذه الرسالة المفتوحة لأقول ما يلي :
إنّ القضيّة المرفوعة ضدّي والتي وصل ملفّها المليء بالمحاضر المزيّفة مكتبك واحدة من تلك القضايا السياسيّة المتخفّية وراء الحقّ العام البريء كل البراءة من اتهامي وأنا المواطنة الصالحة التي تناضل على قدر الجهد من أجل حقوق المجتمع التونسي وحقوقها وتقوم قدر المستطاع بواجباتها عدا الواجب الانتخابي والحقّ يقال.
وإنّ السلطة القائمة -كما تعلم سيّدي- وبعد حلّها لمحكمة أمن الدولة رسميّا ارتأت بصفة غير رسميّة طرقا جديدة وملتويّة في تصفيّة معارضيها تتراوح -حسب رأس الحريف- بين ضرب المعارضين وتهشيم ضلوعهم وبين رميهم بما تتوفر عليه ترسانة بوليسها السياسي العتيد من ضروب المضايقات الأشهر من أن تذكر مجدّدا وبين توظيف مؤسّسات الدولة بما فيها المؤسسة القضائيّة لتجعل منها سكاكين تذبح بها المدافعين عن المواطنة بدل أن تكون -كما ينبغي لها- مؤسسات تحمي حقوق المواطنين وتمنع الاعتداء على مواطنتهم.
وقد رأت فيّ هذه السلطة على ما يبدو "حريفة" أضعف كيانا من أن يستطاع ضربها وقد استنفدت معها العديد من أساليب المضايقة فقرّرت أن تؤدّبني على كتاباتي ومواقفي و بجرّي أمام القضاء لأحاكم من أجل جريمة صرفيّة يبدو أنّني هدّدت بها مناعة اقتصاد بلادنا وأربكت بها توازن سوق الصرف في تونس التي تزدهر فيها تحت أنظار السلطة وفي تغافل من عيونها الساهرة أسواق الصرف الموازيّة والتجارة الموازيّة والتعليم الموازي والطبّ الموازي والقضاء الموازي والمحاماة الموازيّة والسياسة الموازيّة ممّا جعلنا من كثرة المتوازيات لا نتبيّن الخطوط الأصليّة للأشياء من الخطوط الموازيّة.
لقد كانت هذه القضيّة ومن منطلقها حتّى وصولها إلى القضاء باديّة التلفيق سيّئة الإخراج لم يراع فيها مركّبوها حتّى الحفاظ على أبسط مظاهر المصداقيّة عملا بمبدإ "الليقة تجيب" الذي يعتمده البنّاؤون غير المهرة. وهذا ما جعلني آمل-قليلا لا كثيرا حتّى أكون صادقة- أن يرفض القضاء تقبّل هذه القضيّة و النظر فيها تنزيها لنفسه عن الخوض في مثل هذه التفا هات وإعلانا منه على أن هناك خطوطا حمراء لا يسمح له جوهر رسالته بتخطّيها.
ولكنّ القضاء قبل النظر في هذه القضيّة مع الأسف, بل تجاوز ذلك إلى الحكم فيها حكما جائرا لا تناسب له البتّتة مع التهمة -ولو ثبتت- فأبان بذلك وبما لا يدع مجالا للشكّ عن عدم حياده مع معارضي السلطة وكأنّه صار طرفا في الخلاف بينهم وبينها.
لقد جعلني هذا الحكم الجائر أفكّر جادة في عدم استئناف القضيّة ومواصلة حياتي الشخصيّة والنضاليّة كما لو أنّه لم يكن ولكنّ بعض أصدقائي من المناضلين والمحامين أصرّوا على أن أستأنف الحكم وأن أستنفد الإجراءات حتّى نهايتها لكي نرى ما يكون. فقبلت الاستئناف وعزمت على الوقوف أمام قاضيه برغم أنّ مرارة وقوفي أمام قاضي البداية وما كان فيه من حرج لي وخاصة له لم تزل بعد في فمي.
أيّها القاضي
لقد عيّنت لي كتابة محكمتك الوقوف أمامك يوم 31 ديسمبر2003 أي ليلة رأس السنة التي يغادر فيها الناس العاصمة ليلتحقوا بمواطن عائلاتهم ومحال احتفالهم وذلك حتّى أقف أمامك كمجرمة حق عام بلا محامين متطوّعين كثيرين وبلا مناضلين مساندين وبلا ملاحظين تونسييين وأجانب.
إنّ تعيين الجلسة في هذا اليوم يبدو قانونيّا ولا غبار عليه في الظاهر, ولكنّ للباطن قصّة أخرى يعرفها المناضلون جيّدا ويعرفها غيرهم. فللقانون أيّها القاضي -وأنت تعرفه أكثر منّي- مداخل ومخارج وأبوابا ليست مفاتيحها بيد القانون ولا بيد من يطبّق عليهم القانون ولا حتّى بيد القضاء الذي يطبّق القانون في مثل هذه القضايا بل بأيد أخرى هي أيدي من قرّروا أننّهم هم الوجود وما سواهم العدم وزيّنوا لأنفسهم التلاعب بكل شيء في هذه البلاد وتوظيف القانون والقضاء لكي لا تبقى في تونس عين ترى التجاوزات ولا لسان ينطق بما ترى العين ولا رأس ترفع بالكرامة والشرف.
إنّ هذه الأيدي هيّ التي عيّنت لي ولك يا جناب القاضي جلسة رأس السنة هذه... وهنا أقول "كفى !!! " وليتك تقول مثلي ولست بمكرهة لك على قول ما لا تريد أو تستطيع قوله.
أجل أيّها القاضي المحترم إنّي أكتب إليك هذه الرسالة لأعتذر عن عدم حضوري هذه المحاكمة "الرفيونيّة" التي أرى من الآن ودون أن أكون زرقاء اليمامة أنّها لن تكون أكثر من حفل تنكّري ألبس فيه أنا قناع المتّهمة وتلبس فيه أنت والسيّدات اللواتي معك أقنعة الهيئة القضائيّة ويلبس فيه المحامون أقنعة الدفاع الحقيقي الذي يمكن أن يغيّر مجريات الأمور. في حين أنّ للمسرحيّة مخرجا غير مرئي يحرّك الشخوص كما يشاء له هواه.
سيّدي الكريم
إنّي أرفض المشاركة في هذا الحفل لأنّي أكره الأقنعة لنفسي ولغيري من عباد الله القضاة والمحامين. لقد قرّرت أن أريح وأستريح :
لن يكون هناك متّهمة لأنّ الاستمرار في مثل هذه القضيّة ومثل هذه الظروف يفضي إلى شيء من اثنين إمّا التجريم وإمّا تعليق وسام الزعامة على صدر المتّهم وأنا لست مجرمة ولا أريد أن أكون زعيمة.
ولن يكون هناك محامون لأنّ المحامين تكلّموا في هذه القضيّة بما فيه الكفاية وببلاغة أدبيّة وقانونيّة وسياسيّة وحقوقيّة لا تستحقّها هذه التهمة السخيفة.
ولن يكون هناك ملاحظون لا من تونس ولا من خارجها لأنهّ كما يقول المثل البدوي "ضربوها وإلّي ثمّه قالاتو" فالملاحظون لمثل هذه القضايا قد لاحظوا بما يزيد عن الحاجة والزيادة هنا ليست في الخير فكفانا فضائح جعلت منّا فرجة العصر.
سيكون هناك في جلسة يوم 31 ديسمبر من هذه السنة المنتهيّة قضاء فقط... سيقّدم لي هديّة رأس السنة. وسأدع هذا القضاء يحكم بما يرى. وإن برّئنيفسأشكره بالرغم من أن الشكر لا يكون على واجب وسأستزيده لأنّي كمناضلة لا أطلب الإنصاف لشخصي وحده بل لسائر التونسيين والتونسيّات, أمّا إذا أدانني هذا القضاء وجرّمني وأنا البريئة, فذلك شأنه لا شأني وتلك مسؤوليّته وقد وضعته أمامها مسبقا بهذه الرسالة الخفيفة الظريفة التي أرجو للقضاء التونسي الاستمتاع بأسلوبها حتّى وإن ثقل عليه مضمونها وليته أيضا يصغي إلى مضمونها.
سيّدي الكريم
لا أريد أن أختم قبل أن أشير إلىأنّ آفة القضايا السياسيّة ليست مع الأسف الشديد جديدة على بلادنا ولكن الجديد فيها مع هذه القضيّة هوّ درجة الإسفاف الذي بلغته الفبركة ودلالة ذلك على المدى الخطير الذي بلغه استخفاف المفبرك بنا جميعا مواطنين ومناضلين ومؤسسات.
وإذا كانت المحاكمات السياسيّة الكثيرة السابقة والتي خلّفت نتائج كارثيّة وحكمت على أبرياء بالموت تحت التعذيب وبالموت البطيء بالسجون, قد خرج منها المتّهمون بصورة المظلومين المتعاطف معهم بجدّية والقضاء بصورة السلطة الضاربة المهيبة ولو كانت ظالمة فإنّ هذا الجيل الجديد من المحاكمات التذي تنتمي إليه محاكمتي "الريفيونيّة" هذه سيحرمنا حتّى من هذه الصور القويّة على قسوتها فنتحوّل متّهمين وقضاءا إلى مواد للتندّر.
وختاما ليعلم من رموني بالقضاء أو رموا القضاء بي أنّني ومهما يكن الحكم الذي سيصدر في شأني سأواصل السير في طريقي وسيواصل قلمي مع سائر الأقلام المناضلة الأخرى رسم خريطة جديدة لتونس الحريّة وحقوق الإنسان والمؤسّسات الدستوريّة المحترمة والقضاء المستقلّ الذي يعي ذاته لا كوظيفة من بين الوظائف بل كرسالة إنسانيّة ومستودع حقوق.
أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وأرجو لك ولجميع قضاة تونس ولقرّائي سنة جديدة مليئة بالنجاح وراحة البال.
والسلام نزيهة رجيبة تونس في 29 /12/2003
ملاحظة : يبدو أنّ أحد تلاميذي يريد كتابة تكملة لهذه الرسالة لذلك أدعو الجميع إلى قراءة هذه التكملة التي أتوقّع لها أن تكون أجمل من الرسالة نفسها. إنّ من التلاميذ من يتفوّقون على أساتذتهم وإنّ ذلك ليصحّ خاصة إذا كان هؤلاء التلاميذ بقامة توفيق بن بريك فقراءة ممتعة مسبقا.
(المصدر : "كلمة تونس"، العدد 20 لشهر ديسمبر 2003)