23‏/10‏/2008

سيّدة تونس الأولي ...مرّة اخرى أمام المحكمة



رسالة مفتوحة من أمّ زياد إلى قاضي البلاد

31- ديسمبر 2003
إلى السيد محمد الصغير الشرعبي رئيس الدائرة الرابعة عشر لمحكمة الاستئناف بالعاصمة, وإلى جميع قضاة تونس من خلاله إذا أرادوا قراءة هذه الرسالة.
سيّدي الكريم تحيّة طيّبة وبعد, إنّي المدعوّة نزيهة رجيبة (أمّ زياد) : المربيّة والكاتبة التي أصبحت صفتها الجديدة في سجلاتكم "المتّهمة" أكتب إليك هذه الرسالة المفتوحة لأقول ما يلي :
إنّ القضيّة المرفوعة ضدّي والتي وصل ملفّها المليء بالمحاضر المزيّفة مكتبك واحدة من تلك القضايا السياسيّة المتخفّية وراء الحقّ العام البريء كل البراءة من اتهامي وأنا المواطنة الصالحة التي تناضل على قدر الجهد من أجل حقوق المجتمع التونسي وحقوقها وتقوم قدر المستطاع بواجباتها عدا الواجب الانتخابي والحقّ يقال.
وإنّ السلطة القائمة -كما تعلم سيّدي- وبعد حلّها لمحكمة أمن الدولة رسميّا ارتأت بصفة غير رسميّة طرقا جديدة وملتويّة في تصفيّة معارضيها تتراوح -حسب رأس الحريف- بين ضرب المعارضين وتهشيم ضلوعهم وبين رميهم بما تتوفر عليه ترسانة بوليسها السياسي العتيد من ضروب المضايقات الأشهر من أن تذكر مجدّدا وبين توظيف مؤسّسات الدولة بما فيها المؤسسة القضائيّة لتجعل منها سكاكين تذبح بها المدافعين عن المواطنة بدل أن تكون -كما ينبغي لها- مؤسسات تحمي حقوق المواطنين وتمنع الاعتداء على مواطنتهم.
وقد رأت فيّ هذه السلطة على ما يبدو "حريفة" أضعف كيانا من أن يستطاع ضربها وقد استنفدت معها العديد من أساليب المضايقة فقرّرت أن تؤدّبني على كتاباتي ومواقفي و بجرّي أمام القضاء لأحاكم من أجل جريمة صرفيّة يبدو أنّني هدّدت بها مناعة اقتصاد بلادنا وأربكت بها توازن سوق الصرف في تونس التي تزدهر فيها تحت أنظار السلطة وفي تغافل من عيونها الساهرة أسواق الصرف الموازيّة والتجارة الموازيّة والتعليم الموازي والطبّ الموازي والقضاء الموازي والمحاماة الموازيّة والسياسة الموازيّة ممّا جعلنا من كثرة المتوازيات لا نتبيّن الخطوط الأصليّة للأشياء من الخطوط الموازيّة.
لقد كانت هذه القضيّة ومن منطلقها حتّى وصولها إلى القضاء باديّة التلفيق سيّئة الإخراج لم يراع فيها مركّبوها حتّى الحفاظ على أبسط مظاهر المصداقيّة عملا بمبدإ "الليقة تجيب" الذي يعتمده البنّاؤون غير المهرة. وهذا ما جعلني آمل-قليلا لا كثيرا حتّى أكون صادقة- أن يرفض القضاء تقبّل هذه القضيّة و النظر فيها تنزيها لنفسه عن الخوض في مثل هذه التفا هات وإعلانا منه على أن هناك خطوطا حمراء لا يسمح له جوهر رسالته بتخطّيها.
ولكنّ القضاء قبل النظر في هذه القضيّة مع الأسف, بل تجاوز ذلك إلى الحكم فيها حكما جائرا لا تناسب له البتّتة مع التهمة -ولو ثبتت- فأبان بذلك وبما لا يدع مجالا للشكّ عن عدم حياده مع معارضي السلطة وكأنّه صار طرفا في الخلاف بينهم وبينها.
لقد جعلني هذا الحكم الجائر أفكّر جادة في عدم استئناف القضيّة ومواصلة حياتي الشخصيّة والنضاليّة كما لو أنّه لم يكن ولكنّ بعض أصدقائي من المناضلين والمحامين أصرّوا على أن أستأنف الحكم وأن أستنفد الإجراءات حتّى نهايتها لكي نرى ما يكون. فقبلت الاستئناف وعزمت على الوقوف أمام قاضيه برغم أنّ مرارة وقوفي أمام قاضي البداية وما كان فيه من حرج لي وخاصة له لم تزل بعد في فمي.
أيّها القاضي
لقد عيّنت لي كتابة محكمتك الوقوف أمامك يوم 31 ديسمبر2003 أي ليلة رأس السنة التي يغادر فيها الناس العاصمة ليلتحقوا بمواطن عائلاتهم ومحال احتفالهم وذلك حتّى أقف أمامك كمجرمة حق عام بلا محامين متطوّعين كثيرين وبلا مناضلين مساندين وبلا ملاحظين تونسييين وأجانب.
إنّ تعيين الجلسة في هذا اليوم يبدو قانونيّا ولا غبار عليه في الظاهر, ولكنّ للباطن قصّة أخرى يعرفها المناضلون جيّدا ويعرفها غيرهم. فللقانون أيّها القاضي -وأنت تعرفه أكثر منّي- مداخل ومخارج وأبوابا ليست مفاتيحها بيد القانون ولا بيد من يطبّق عليهم القانون ولا حتّى بيد القضاء الذي يطبّق القانون في مثل هذه القضايا بل بأيد أخرى هي أيدي من قرّروا أننّهم هم الوجود وما سواهم العدم وزيّنوا لأنفسهم التلاعب بكل شيء في هذه البلاد وتوظيف القانون والقضاء لكي لا تبقى في تونس عين ترى التجاوزات ولا لسان ينطق بما ترى العين ولا رأس ترفع بالكرامة والشرف.
إنّ هذه الأيدي هيّ التي عيّنت لي ولك يا جناب القاضي جلسة رأس السنة هذه... وهنا أقول "كفى !!! " وليتك تقول مثلي ولست بمكرهة لك على قول ما لا تريد أو تستطيع قوله.
أجل أيّها القاضي المحترم إنّي أكتب إليك هذه الرسالة لأعتذر عن عدم حضوري هذه المحاكمة "الرفيونيّة" التي أرى من الآن ودون أن أكون زرقاء اليمامة أنّها لن تكون أكثر من حفل تنكّري ألبس فيه أنا قناع المتّهمة وتلبس فيه أنت والسيّدات اللواتي معك أقنعة الهيئة القضائيّة ويلبس فيه المحامون أقنعة الدفاع الحقيقي الذي يمكن أن يغيّر مجريات الأمور. في حين أنّ للمسرحيّة مخرجا غير مرئي يحرّك الشخوص كما يشاء له هواه.
سيّدي الكريم
إنّي أرفض المشاركة في هذا الحفل لأنّي أكره الأقنعة لنفسي ولغيري من عباد الله القضاة والمحامين. لقد قرّرت أن أريح وأستريح :
لن يكون هناك متّهمة لأنّ الاستمرار في مثل هذه القضيّة ومثل هذه الظروف يفضي إلى شيء من اثنين إمّا التجريم وإمّا تعليق وسام الزعامة على صدر المتّهم وأنا لست مجرمة ولا أريد أن أكون زعيمة.
ولن يكون هناك محامون لأنّ المحامين تكلّموا في هذه القضيّة بما فيه الكفاية وببلاغة أدبيّة وقانونيّة وسياسيّة وحقوقيّة لا تستحقّها هذه التهمة السخيفة.
ولن يكون هناك ملاحظون لا من تونس ولا من خارجها لأنهّ كما يقول المثل البدوي "ضربوها وإلّي ثمّه قالاتو" فالملاحظون لمثل هذه القضايا قد لاحظوا بما يزيد عن الحاجة والزيادة هنا ليست في الخير فكفانا فضائح جعلت منّا فرجة العصر.
سيكون هناك في جلسة يوم 31 ديسمبر من هذه السنة المنتهيّة قضاء فقط... سيقّدم لي هديّة رأس السنة. وسأدع هذا القضاء يحكم بما يرى. وإن برّئنيفسأشكره بالرغم من أن الشكر لا يكون على واجب وسأستزيده لأنّي كمناضلة لا أطلب الإنصاف لشخصي وحده بل لسائر التونسيين والتونسيّات, أمّا إذا أدانني هذا القضاء وجرّمني وأنا البريئة, فذلك شأنه لا شأني وتلك مسؤوليّته وقد وضعته أمامها مسبقا بهذه الرسالة الخفيفة الظريفة التي أرجو للقضاء التونسي الاستمتاع بأسلوبها حتّى وإن ثقل عليه مضمونها وليته أيضا يصغي إلى مضمونها.
سيّدي الكريم
لا أريد أن أختم قبل أن أشير إلىأنّ آفة القضايا السياسيّة ليست مع الأسف الشديد جديدة على بلادنا ولكن الجديد فيها مع هذه القضيّة هوّ درجة الإسفاف الذي بلغته الفبركة ودلالة ذلك على المدى الخطير الذي بلغه استخفاف المفبرك بنا جميعا مواطنين ومناضلين ومؤسسات.
وإذا كانت المحاكمات السياسيّة الكثيرة السابقة والتي خلّفت نتائج كارثيّة وحكمت على أبرياء بالموت تحت التعذيب وبالموت البطيء بالسجون, قد خرج منها المتّهمون بصورة المظلومين المتعاطف معهم بجدّية والقضاء بصورة السلطة الضاربة المهيبة ولو كانت ظالمة فإنّ هذا الجيل الجديد من المحاكمات التذي تنتمي إليه محاكمتي "الريفيونيّة" هذه سيحرمنا حتّى من هذه الصور القويّة على قسوتها فنتحوّل متّهمين وقضاءا إلى مواد للتندّر.
وختاما ليعلم من رموني بالقضاء أو رموا القضاء بي أنّني ومهما يكن الحكم الذي سيصدر في شأني سأواصل السير في طريقي وسيواصل قلمي مع سائر الأقلام المناضلة الأخرى رسم خريطة جديدة لتونس الحريّة وحقوق الإنسان والمؤسّسات الدستوريّة المحترمة والقضاء المستقلّ الذي يعي ذاته لا كوظيفة من بين الوظائف بل كرسالة إنسانيّة ومستودع حقوق.
أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وأرجو لك ولجميع قضاة تونس ولقرّائي سنة جديدة مليئة بالنجاح وراحة البال.
والسلام نزيهة رجيبة تونس في 29 /12/2003
ملاحظة : يبدو أنّ أحد تلاميذي يريد كتابة تكملة لهذه الرسالة لذلك أدعو الجميع إلى قراءة هذه التكملة التي أتوقّع لها أن تكون أجمل من الرسالة نفسها. إنّ من التلاميذ من يتفوّقون على أساتذتهم وإنّ ذلك ليصحّ خاصة إذا كان هؤلاء التلاميذ بقامة توفيق بن بريك فقراءة ممتعة مسبقا.
(المصدر : "كلمة تونس"، العدد 20 لشهر ديسمبر 2003)

ليست هناك تعليقات: