نستقبل مع العودة المدرسية ونهاية العطل الصيفية السنة السياسية الجديدة 2008-2009 وهي سنة مفصلية من المفروض أن يدعى فيها الشعب التونسي إلى اختيار من ينوب عنه في الحكم للسنوات الخمس القادمة. ويغلب على الناس، إزاء هذا الاستحقاق، شعور عميق بالإحباط: دار لقمان باقية على حالها و لا شيء سوف يتغير من حياتنا الوطنية. هذا الشعور العام لا يعني أن المواطن العادي لا يتوق إلى التغيير، وإنما مرده اليأس و الشعور بالضعف وبالانعزال في وجه القوة العارية التي تلجأ إليها الدولة لمعالجة كل طموح نحو الأفضل. ويولد هذا الشعور بالإحباط حالة من الاحتقان بسبب ما يشكو منه المواطن من ضيق في حياته اليومية، إزاء التهاب الأسعار وتدهور الطاقة الشرائية وإزاء استفحال البطالة و استشراء الفساد. ولعل الانفجار الذي تشهده منطقة الحوض المنجمي منذ جانفي الماضي تعبير حاد عن هذا الاحتقان وتلخيص لما يطمح إليه المواطن في كل جهة من جهات البلاد من حق في العمل ومساواة أمام القانون وعدل في توزيع الثروة الوطنية.
وحجة الحكومة في الحفاظ على الجمود السياسي، رغم ما يولده من توتر ويخبؤه من أخطار على الاستقرار ، ما تنسبه لنفسها من نجاحات اقتصادية. ولا ينكر أحد أن تونس نجحت في الحفاظ على التوازنات الكبرى لاقتصادها وأنها تحقق معدلا للتنمية تجاوز السنة الماضية الستة نقاط مائوية، وأن الآفاق الاقتصادية ليست مدلهمة، خاصة أن الخليجيين ينوون استثمار فائض ثروتهم البترولية في حقل العقارات التونسية بمبالغ ضخمة من المتوقع أن تبلغ ستين مليار دولار أي أكثر من ضعف الناتج الداخلي الخام للبلاد. لكن ماذا تعني هذه الأرقام بالنسبة للمواطن في حياته اليومية؟ إنه يسمع جعجعة ولا يرى طحينا. فنسبة النمو للسنة الماضية اعتمدت في جانب من جوانبها على نمو قطاع المحروقات بنسبة 22 بالمائة الذي زاد حجم إنتاجه بنحو 40 بالمائة وحجم عائداته المالية بنسبة 60 بالمائة وحقق لأول مرة (منذ أربعة عشر سنة) فائضا إيجابيا في ميزان تبادل المحروقات مع الخارج. وهو قطاع يمثل زهاء الخمسة بالمائة من الناتج الداخلي الخام، استأثر لوحده، السنة الماضية، بثلاثة أرباع الاستثمارات الخارجية المباشرة. أرقام مفرحة تعود في جانب كبير منها إلى أزمة البترول في العالم وعادت على ميزانية الدولة بالنفع العميم. غير أن المواطن لم ير منها سوى الترفيع من سعر المحروقات في السوق الداخلية، خمس مرات متتالية، وما صاحب ذلك من التهاب لأسعار المواد الاستهلاكية الأساسية بحجة ارتفاع الأسعار العالمية للمحروقات. لا تعود نسبة نمو الاقتصاد إلى قطاع المحروقات وحده طبعا، ولا حتى بصفة أساسية، بل ساهمت فيها الزراعة والصناعة بنصيب. وإنما أردنا بهذا المثال أن نقف على المفارقة التي يعيشها التونسي بين خطاب رسمي تمجيدي ومعاناة يكابدها في حياته اليومية. وإلى ذلك لم تتمكن التنمية الرسمية من تقليص البطالة المستفحلة والتي تتخذ أبعادا درامية مع استشراء بطالة أصحاب الشهادات العليا، وهذه التنمية لم تحل دون تفجر أزمة المدرسة وما تعانيه من تدني في المستوى، في عصر يقوم على المعرفة والتكوين والبحث العلمي وهي تنمية لم تحقق للمواطن ما يطمح إليه من مستوى في العيش بل أن الأرقام الرسمية والمعدلات العامة تخفي اختلالا مفزعا في توزيع الثروة الوطنية بين الفئات الاجتماعية وجهات البلاد مما يجعل السواد الأعظم من المواطنين يعاني من الضيق وغلاء المعيشة والإهمال. وهي تنمية لا يمكن أن تخفي ما تمثله نفقات الصحة والعلاج من عبئ على المواطن في وقت يتقلص فيه نصيب الدولة من تمويل الصحة العمومية وتضطرب فيه أوضاع صناديق التغطية الاجتماعية ويتحمل فيها المواطن من جيبه الخاص أكثر من نصف مصاريف العلاج (53 بالمائة).
خلاصة القول أنه لا يمكن للقائمين على الدولة أن يدعوا أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، بل أن تنمية أعلى نسبة وأكثر عدلا، تنتج ثروات أكثر وتشغل عددا أكبر ممكنة وهي في متناول التونسيين لو رفعت عنهم الوصاية وفتحت في وجههم أبواب المشاركة والمراقبة وتفتقت طاقاتهم الإبداعية في كل الميادين. ومن الجدير بالتذكير في هذا السياق أن التنمية ليست عملا حكوميا وإنما هي حصيلة عمل مئات الآلاف من المزارعين ومئات الآلاف من عمال قطاع الصناعة والخدمات ومجهود الآلاف من أصحاب المؤسسات وجهد وكد مئات الآلاف من إطارات الإدارة التونسية. الحكومة ليست سوى فريق سياسي يضمن من خلال برامجه ورؤاه الإطار العام المحفز لنشاط المجتمع. ولا يمكن لفريق أن يدعي لنفسه العصمة أو الحق في احتكار القرار ، الشعب المنتج وحده يحق له أن يختار بين مختلف الفرقاء السياسيين ، هكذا يقع في الدول المتقدمة حيث تكون الدولة في خدمة المجتمع وتحت رقابته من خلال إعلام حر وعبر انتخابات دورية ويكون الفريق الحاكم فيها خاضعا للمساءلة سواء عبر المنافسة السياسية أو بفضل فصل السلطات وتبادل الرقابة بينها أو عند الاقتضاء من قبل سلطة قضائية مستقلة. وهنا بالذات تكمن أهمية السنة السياسية الجديدة والتي ستتوج بانتخابات عامة يريدها الحكم صورية ونريدها حقيقية، يريدها فرصة مهدورة مرة أخرى ونريدها منعطفا نحو الإصلاح والتغيير السياسي. لقد شهد المجتمع المدني التونسي نهوضا ملحوظا في السنوات الماضية تجلى في يقظة وحيوية الهيئات المهنية (محامون وقضاة وصحافيون وجامعيون وأطباء القطاع الخاص والعام ونقابيون من مختلف قطاعات الإنتاج) وجاء هذا النهوض ثمرة لتضحيات مناضلي حقوق الإنسان والأحزاب السياسية ونتيجة للثورة في تقنيات وسائل الاتصال والإعلام (انترنت وفضائيات وهواتف محمولة الخ..) وبفضل مناخ دولي موات للحرية والديمقراطية. لكن علينا أن نقر بأن ما تحقق من تقدم لا يكفي حتى تعرف تونس انتقالا إلى الديمقراطية بمناسبة الانتخابات القادمة وأنه على التونسيين إن أرادوا أن يفتكوا حقوقهم وأن يمسكوا مصيرهم بأيديهم أن يكثفوا من الجهد والعمل حتى يفتحوا باب المشاركة والمنافسة السياسية على مصراعيه. ولن يأتيهم هذا التغير من الخارج. الوضع الخارجي موات للتغيير، لأنه من شروط الاستقرار العالمي وازدهار الأعمال والمبادلات. ولا تخفي الدول الحليفة للنظام قلقها من الانغلاق السائد في البلاد وهي تؤيد الإصلاح كما يثبت ذلك من مواقف الاتحاد الأوربي المعلنة ومن تصريحات مسؤولي الإدارة الأمريكية فضلا عن موقف الصحافة العالمية والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وكافة القوى المحبة للديمقراطية والسلم. هذا المناخ المواتي لا يمكن أن يعوض الجهد الخاص فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إن نسبة أعلى من التنمية في متناول أيدينا، تنمية تخلق خيرات أوفر وذات قيمة مضافة أعلى، تنمية تحدث فرص عمل أوفر وأكثر مهارة، تنمية تقوم على إصلاح التعليم في عالم جعل من العلم والمعرفة أساس التنافس بين الدول والشعوب. وأن توزيعا عادلا لثمرات هذه التنمية ممكن ومتحتم، توزيع ينمي الطاقة الشرائية للمواطنين ويرتقي بمستوى عيشهمن، يكفل لهم مجانية التعليم وجودته وتغطية صحية شاملة، توزيع يعدل بين الجهات فينمي التكافل ويعزز الوحدة الوطنية.
إن مهمة تحقيق هذه التنمية تعود على عاتق مجتمع راشد يأخذ مصيره بأيديه دون وصاية من أحد معتمدا على شبكة من التنظيمات الأهلية المختلفة الاختصاص والمعددة الاتجاهات وعلى أحزاب سياسية فاعلة ويمارس سيادته من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة وهو ما يستدعي إصلاحا شاملا للنظام السياسي في بلادنا. ومن أجل تحقيق مثل هذه الشروط اختار الحزب الديمقراطي التقدمي أن لا يلقي بالمنديل قبل خوض المعركة، فقدم مرشحا مستقلا للانتخابات الرئاسية ويرفض أن يلعب دور الديكور فيها وهو يستعد لدخول الانتخابات التشريعية في كل الدوائر ببرنامج الإصلاح السياسي مدخلا لإصلاح أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. نحن على وعي بطبيعة العقبات التي تقف في وجه تحقيق هذا الهدف العظيم ولكننا على يقين أيضا بأننا إذا لم نحقق الهدف كله هذا العام فسوف نكون قد عبدنا الطريق إليه. وبهذا المعنى فإن سنة 2009 سنة الامتحان والرهانات والتحديات الكبرى: امتحان للسلطة وللمعارضة وللمواطن في ذات الآن، فهل ننجح من جانبنا في رفع التحدي