قصّة حقيقية ...كتبتها كما وردت لي
أطردت حليمة من جامعة الطب ّ بتونس ظلما و بهتانا ...فشلّت
و العاصفة الهوجاء، و التراب المعانق للسماء، لن أتخلى عنك يا حليمة يا عروس هذا الوطن. و إن لزم الأمر أن أعيد جميع ما صاغته اللّغة و كتبه القلم. طرقت الباب...كما قطرات المطر ...و اين المطر على وطن يكون فيه الضلم كالماء. ألقت بضهرها إلى الباب الخارجي و كاني بها في حالة حتضار، بل أكثر من ذلك بدت كما ورقة خريف، صفراء الوجه، غرقت عينها في الدموع و أزرّقّت أحداقها.
عندما حاولت أن أحتضنها و أخذها جنبا، لم أشعر بأي حرارة، كما أنها جثة فقدت من ساعات الحياة. طارت زينب بيني و بينها و كأن أصبها جن من جنون جهنم، و لم تعرف ما يحدث و لم تفهم شيئ، فالبارحة كانت قد إستودعت إبنتها للجامعة، تراها اليوم جثة بين يدها. و لم تنطق بحرف واحد، و لم تتكلم حليمة، بل رشقت عينها إلى السقف في حالة غيبوبة قصوى. أسدلتها على سريها و جلست أرضا. وجهي بين عينها...أريدها أن تتكلم ...قولي شيئا حبيبتي؟ تكلّمي ...لا تخافي ...ماذا حدث؟ و لم تسمعني ...و لم تحرك و لو جفنا واحدا. جلست زينب إليها و حاولت و حاولت و لا كلمة و لا حتى إبتسامة صغيرة...
خرجت من المنزل ...ذاهبا عند الطّبيب ...إنشد النّجدة ....أجري حافي القدمين و العاصفة الهوجاء في وجهي كما إبليس اللّذي سكن هذا الوطن فأخمد صوته و جعل منه قشّة في مهب الريح...أجري و الكلاب ورائي ...أجري ضد الرّياح و ضد العواصف ...و على بعد الخمسين مترا، رأيتني أصيح بأعلى صوتي ...النجدة يا دكتور ...النجدة يا دكتور ...إلي بالدكتور ...و خرج من بيته و لم يتعود أن يأتي عنده قاسم اللذي فقد من منذ قديم الزمان خيط صداقة، الذي كان يربطه به. ...إبشر با قاسم !!! ما بك يا قاسم ...إبنتي حليمة في غيبوبة ...لم تعد لتتكلّم ...لا أعرف ما السبب ...هيا بنا إلى البيت ...خذ معك كل شيئ ...سأحضر محفظتي ...دقيقة واحدة يا قاسم....ولم يشتعل محرّك السيارة ...و نزلت حتى أدفعها ...و دفعتها و لا شيئ سوى الخرير ...سقطت أرضا وراءها ...و ما صابني إلا و ان رجلا لم أعد لأتحسسها ...و أجري و الدكتور ...إلى البيت.
جلس إليها ...تفحص عينها ...جس نبضها ...و أتفحص عينه ...و أقرأ على حاجبيه ...إلى المستشفى ...يا قاسم ...لابد من دخول المستشفى حالا...إفعل شيئا يا دكتور...عن أي مستشفى أنت تتحدث ...أفعل...حرّك البنت ...حليمة لا تتحرك!!!!!!
أخذ الدكتور بيدي و خرج بي إلى فناء البيت، ثم قال، حليمة مريضة جدا و أضن انها مرّت بنوبة عصبية جعلت منها في حالة غيبوبة ...و لكن يا قاسم، قد تستيقظ حليمة بسرعة كبيرة لو أنت أخذتها للمستشفى، في قاعة العناية المركزة، حيث نستطيع أن نوفر لها كل الظروف المناسبة...حليمة بحاجة لمادة الأكسجين.
طلبت من زينب، إن تجهز حليمة لرحلة الموت...جهزيها لقاعة العناية المرّكزة و بسرعة يا زينب...لحضات يا قاسم ......لحضات يا قاسم. و لا شيئ عندي سوى الجرّار ...أعلى الجرّار يا دكتور ؟ و حتى على دبابة، لتجلس حليمة و أمها على المحراث ...ساعدني يا دكتور حتى نبسط شيئ على الحديد...و كان الجرّار جاهز لشق صحراء الوطن ...إلى قاعة العمليات المركزة.
و ترسبل الجرّار إلى المدينة، بعد منتصف اللّيل...يخوض المواجهة مع الموت ...و قد تفقد زينب صوابها أو تسقط من فوق المحراث ...ليسقط كل شيئ...و تسقط السماء و تنشق الأرض لتبتلع هذا الكون بأسره...عين على المقود و عين إلى زينب و قلب لم يعد ليخفق بل يضخ الدم في عروقي كما محطة بنزين ...إن إعترض طريقى أحد العسسة من عسسة فرعون، لن أرحم الكلب و أمر عليه بالجرّار...و كان العسسة قد عرفو إني لن أرحم أحدا منهم ، فجرّاري لا ضوء له و لا مزمار له و لا حتى ورقة فوقه. أجري ...بسرعة الجرّار و لو كان سيارة لطارت في الهواء...من شدة الغضب و من شدة العاصفة.
التسجيل ...مكتب التسجيل...و على المقاعد ...بل على الخشبة ...جلست زينب و حليمة بين يدها في إنتضاري و الدكتور كذلك ... حتى نقوم بتسجيلها للدخول لغرفة العناية المركزة....طال الحديث مع هذا الموضف و طلب ما لا يخطر على بال إحد.
طلب مني رهينة حتى يمضي على ورقة الدخول ...و لا شيئ فوقي و لا حتى وراقات الجرّار...لا شيئ عندي ...إلا عقد زينب ...أدرت لها وجهي اللذي أصبح أزرقا و قلت يا زينب ...إلي بعقدك ...يا زينب يريد رهينة مني ...مسكت بعقدها ...و جذبته إليها ..لتمزق صدري و صدرها ....خذ يا قاسم ...أعطه يا قاسم ...و مددت يدي إليها ...و عيني في عينها...عقدها و عقدي و عقد الحب اللّذي بيننا ...و عقد الشرف و عقد الأخلاص و الكرامة ...مشت ...إمتدت يدي إليها ...و كانت يد حليمة قد تحركت لتقبض على العقد في اللّحضة التي ألتقت يدي بيد زينب...مسكت العقد بكل ما أتت من جهد و جلست كما عجوز ....ألاهي....ألاهــــــي ...يا زينب حليمة تحركت ...حليمة لم تفقد ذاكرتها ....جلست إلى قدمي زينب و قبّلتهما ...أحتضنت حليمة و الدمع الغزير كان قد سقى الأرض بين حمامتيّ.
يقتلون بناتنا، يسجنون رجالنا، و يطلبون المال علينا. هذا قدر شعب لم يتجرأ، أن يخرج إلي الشوارع، هذا قدر كل فرد منكم، و هذا قدر كل من لم يتحمل مسؤوليته. اليوم عندي و غدا في بيوتكم. اليوم قفصة و حوضها و غدا أحدا منكم. اليوم نور الهدى، تجلس إلي أمها دون عيد! دون أن ترى أباها! و غدا نورا أخرى ....هل ستتكلّم الموتى ؟ أم نأتي برجال أخرى على أرض لم تعد لتحتمل الغورة و الدّسيسة.
تحية نضالية...لأيناثنا اللّواتي رفعن شعار التحدي في وجه الدكتاتورية