29‏/08‏/2008

أنـــــا لا أنتمي ألي نحن...TUNEZINE


بن عروس تونس23 - 10 - 2004
قدر الإنسان المحتوم أن يكون شاهدا على الردح اليسير من الزمن الذي يحياه، أن يرى ويلاحظ ويسمع ويقرأ... ربما يرسخ نزر قليل في الذاكرة والمخيلة غير أن السواد الأعظم إلى زوال يمضي. بالمقابل تظل الأناسي مخيرة بين أنت تترك أثرا في واقعها أو أن تتهرب منه وتلوذ بالصمت وتنسى. كذلك هي السياسة تحاول تركها في حالها وعدم الخوض فيها ولكنها تضيق عليك الخناق، تحاصرك من كل حدب وصوب لتحولك لكائن سياسي رغما عن أنفك وتدفعك بوعي أو بدونه أن تدلي بدلوك في الشأن العام وأن ترفض قدر المستطاع أن تكون لعبة بيد غيرك.
المؤسف حقا أن تسمع غيرك يتحدث دوما باسمك دون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن رأيك ووجهة نظرك. ثلاثة أحرف يمتطيها ليدوسك ويمضي في سبيله، نحن كذا... ونحن كذلك... النحن، هذه الفرس الجامحة تكاد تصبح براقا لتسفر بك نحو عوالم لا تستهويك ولا ترضي أهوائك إن في إسراءها أو في معراجها والقبول بلعب دور المتقبل السلبي يغري الفاعلين بمزيد من التنكيل بالمفعول بهم والإمعان في امتهان ذكائهم بل وغالبا الازدراء منهم والضحك من ذقونهم.
الحديث في المطلق جميل ومغري حقا فهو يعطي المتلقي أو الآخر انطباعا خاطئا بأن السارد متمكن من واقعه وملم بجوانب الموضوع زد على ذلك أنه يجنبه كفاعل تبعات غضب من يرى نفسه مقصودا بكلامه ويفتح المجال لتأويلات عدى إن سلبا أو إيجابا فالمعذرة إذا إن كنت من هنا فصاعدا سأتحدث باسمي فقط وانطلاقا من تجربتي ولو كانت محدودة ومن رام اعتبار ذلك تكبرا من جانبي فليكن له ذلك ومن فهم المقصد فأنا ممنون له مسبقا.

موضوع الساعة الذي لا غنى عنه بالنسبة لي هو المهزلة التي نعيش في تونس المسماة زورا انتخابات والتي ستلفظ أنفاسها الأخيرة بعد سويعات من الآن بعد أن كادت تذهب بأعصابي وهي التي استنزفت كل قواي الذهنية دون الحيلولة من جعلي أقر بأني لم أفهم شيئا تقريبا ولم أتمكن من استيعاب مجريات الأمور بالكامل ولكن ذلك لن يمنعني من أن أقر بامتعاض بأنها الإنتخابات الأولى التي تزوّر في مناخ ظاهرة ديمقراطية وشفافية وباطنه سعي محموم نحو تكريس العبودية والذل.

للتاريخ فقط أذكّر بأن الجنرال زين العابدين بن علي الفائز الأبدي وبلا منازع بكل الاستحقاقات التي أقيمت والتي قد تقام في المستقبل القريب أو البعيد أتى لسدة الحكم منذ سبعة عشرة سنة خلت ببرنامج ملئ بالوعود الفضفاضة وبالعبارات الجوفاء لم يطبق منها شيء، الغريب في الأمر أنه خير الهروب للأمام ككل مرة وأضاف لبرنامجه الانتخابي الخاوي الوفاض واحد وعشرون دليلا إضافيا على قدرته اللامتناهية على النفاق والخديعة وبرهانا لا يقبل الدحض عن استهزائه بكل التونسيين ومراهنته على ذاكرتهم المحدودة جدا.

المعارضة بجميع أطيافها طرق كل شق منها المنحى الذي يلبي تطلعاته ولم يحدث ما كان مستبعدا بالمرة بل قل مستحيلا وهو وقوفها جنبا لجنب في وجه منظم المهزلة وراعيها الأول، وهو على ما أرى دليل على حيوية الشعب التونسي وثرائه وليس دليل إدانة لأحد فجمع الأضداد لا يخلق غير الكوارث والقنابل الموقوتة التي قد تنفجر في وقت غير بعيد في وجه معديها وتحدث ضررا لامتناهيا بالجميع. فالجمع بين السلفيين والعلمانيين مثلا خرافة وأسطورة غير قابلتين للتحقيق بالمرة.

المعارضين في تونس ليسوا بالعدد القليل عكس ما يتصور الجميع فزين العابدين بلسان وزير داخليته كان قد صرح في انتخابات سنة تسعة وتسعين وتسعمائة وألف بأن ثلاثة مائة ألف مواطن على الأقل لم يصوتوا لبن علي وتجمعه المشبوه الغير ديمقراطي والغير دستوري بالمرة وهو أمر على غاية من الأهمية ولو أن الجميع يجهله أو يحاول التغافل عنه ربما لكونه يدرك أن التزوير الرياضة الشعبية الأولى في تونس ولو شهد شاهد زور من أهلها.
للمعارضة التونسية فصائل وأطياف شتى هذه أهمها :

- المعارضة الديكور ومن أبرز تجلياتها الحزب الاجتماعي التحرري وحزب الوحدة الشعبية وينطبق عليها شعار مهرجي السلطان وهي تتمتع بدعم لامتناهي من الإدارة في أنشطتها وحتى في خطاباتها التي أكاد أجزم أنها تكتب وتسير من طرف الحزب الحاكم فمن خلالها تسعى الدكتاتورية لتشويه صورة المعارضة لدى عامة الناس ولإضفاء مسحة ديمقراطية كاريكاتورية على أنشطتها المشبوهة.

- المعارضة المنفعية والمصلحية ومن روادها الحزب الديمقراطي الوحدوي وحركة الديمقراطيين الاشتراكين وما يسمى بالأغلبية الصامتة، شعارها المتاجرة بعذابات الخلق من تونس إلى العراق مرورا بفلسطين لتضفي مشروعية أخلاقية لوجودها، ينطبق على رموزها القول أطعم الفم تستحي العين وهي انتهازية للغاية ولا تخجل من المطالبة بنصيبها من الغنيمة كلما سنحت الفرصة.

- معارضة على قدر كسائي أمد رجلي وهي معارضة مغلوبة على أمرها ولو أنها تحاول إثبات العكس وهي تحاول قدر الإمكان اكتساح الثغرات التي يتركها المشرّع بقانونه المسرف في الإجحاف ومن أقطابها حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ولو أن لاشيء تقريبا يجمعهم.

- معارضة الكاميكاز وتونسيي نكبة سبعة وثمانين وتسعمائة وألف، وأنا على الأرجح منهم، وهي آلة رهيبة لتفريخ ضحايا القمع البوليسي تتميز بعنف شديد في لهجتها وسخط لامحدود على الأوضاع المعاشة وتضم رواد الرأي وصناع القرار في ما يخص فضح الدكتاتورية ونزع أوراق التوت عنها. مساوئ هذا التيار أنه يجمع الأضداد وهو ما يعيق قيامه بتخليص البلاد من هيمنة الحزب الواحد وحتى مقاطعتهم المبدئية والمنتظرة للمهزلة الانتخابية تمت بطريقة متشتتة للغاية.
كان من الممكن أن أصمت كالغالبية الساحقة وأن لا أخط ما رأيت وما سمعت ولكني لم أقدر فالسكوت علامة الرضا أو ربما الخوف من عواقب أجهلها ومن تأجيج عداوات أنا في غنى عنها ولكني أرى لزاما على نفسي أن أبوح بما لا يمكن كتمانه :

- المشاركين في الانتخابات الرئاسوية أضفوا مشروعية كانت غائبة بالكامل علىترشحما يسمى بالرئيس السابق واللاحق والذي سطا على حرمة الدستور وحرفه كما طاب له منذ سنتين ليبقى في سدة الحكم حتى الممات لا ينافسه في ذلك غير أجله. بإمكانهم بعد دراسة عواقب صنيعهم أن يقولوا ما يحلو لهم ولكن التاريخ وحده سيقول إن كان فعلهم خيانة لتونس أم غير ذلك.

- نفر غير هين من الانتهازيين والمتملقين غنموا الشيء الكثير من مساندتهم المشبوهة للدكتاتور أو صمتهم المتواطئ على أفعاله وأتمنى أن يعود صنيعهم عليهم بالوبال في أقرب وقت ممكن ولا فائدة من ذكر الأسماء فالقائمة متنوعة وطويلة جدا ولكل مقام مقال.

- المعارضة السلمية استنفذت كل أسلحتها بعد هذه المهزلة المتكررة والخيبة المتجددة ولا ريب أن ظهور معارضة عنيفة قولا وفعلا لن يطول كثيرا فكل الظروف باتت سانحة لقيام حركات احتجاجية غير معهودة على الساحة ولو أن بوادرها بانت للعيان منذ مدة داخل الوطن وخاصة خارجه وحتى القمع الذي واجه به بن علي منتقديه المسالمين من المستحيل أن يكون أعنف من الآتي وهو الذي بلغ ذروته مناسبات عدة ولم ينجح أبدا في إخماد أصوات المحتجين وثنيهم عن قول الحق.

- القوى التي لا تزال تحرك خيوط الشأن الداخلي من الخارج برهنت أنها لا ترى للإستبداد والتسلط لنا بديلا وأننا لسنا أهلا للديمقراطية وحتما سيكونون كلهم كالعادة من أول المهنئين للدكتاتور على ديمقراطيته ونزاهته المعتادة.
سهل ويسير أيضا التشهير بالمتواطئين ولوم المتذبذبين بل هو في متناول كل من هب ودب ولكن ما العمل لإخراج هذا البلد من عنق الزجاجة، هل على الجميع الكف عن إهدار الطاقات وبذل التضحيات والقبول بصفة نهائية بالأمر الواقع ولو كان مخزيا ؟ هل من المعقول أن يصبح دور المجتمع المدني محصورا في بعض الأنشطة الحقوقية دون غيرها بعد أن غيب كل نشاط سياسي أو نقابي بين ظهرانينا ؟ هل نخدع بالوعود الزائفة ونصمت عشرة سنين أخرى في انتظار أن يرحل الدكتاتور طوعا؟

أنا وإن كان رأيي لا يعبر عن أحد غيري أرى أنه قد حان الأوان لخلق جبهات وليس جبهة واحدة متراصة لا يجمعها شيء فأصحاب النظرات الشمولية المؤسسة لمجتمعات تبنى على مذهب فكري متزمت أو عرق اثني أو لغوي ولا تؤمن بالمساواة في الحقوق بين جميع الأفراد عليهم أن يسلكوا طريقهم لوحدهم بمعزل عن من يسعى لإقامة نظام ديمقراطي حر يسع الجميع، فالأصوات التي تنادي بالفصل بين الفرقاء والأضداد باتت أعلى من أن يسعى البعض لتجاهلها والنضال لاستبدال دكتاتورية بأخرى لا تخجل بأن تصرح في السر والعلن بأن "الغاية تبرر الوسيلة" مضيعة للوقت لا غير.
هذه بعض هوامش جمهورية الغد لمن لم يفهم كنها بعد :

- النسبة المعلن عنها لا تعكس عدد من صوتوا للفائز بل عدد من نجح النظام في تدجينهم وهو ما يفسر السعي الدءوب لتحسينها.
- القمع أصبح تنظيما يقنن بعد أن عهدنا القانون قمعا منظما.
- الإرهاب غدا منهجا فكريا مثله مثل الشيوعية أو الليبرالية ولو أنه يلبس حلة براقة تناسب كل بلد وطباع أهله فأين العجب إذا لو سمي من يروع شعبه بكل ما أوتي من جبروت رئيسا منتخبا وأن يكون شعار عسسه يحمل عبارة "الصدق في القول والإخلاص في العمل" وهم أبعد الناس عنها.
- تزوير الإرادة الشعبية سيتم مستقبلا في كنف الديمقراطية وحياد الإدارة.
- تونس ستصبح ديمقراطية يوم تعد عشرة ملايين حزب ومنظمة معترف بهما.
زهير اليحياوي
23-10-2004

الوضع التونسي بين الكوميديا والتراجيديا تونس المسخرة


الدكتور منصف المرزوقي :
أي وصف يمكن أن نصف به الوضع في تونس اليوم سوى أنه مأساة في قالب مهزلة وأحيانا مسخرة يندى لها الجبين؟أي وصف يمكن أن نصف به تونس اليوم باستثناء أنها مسخرة : حكومة ومعارضة ونخبا وشعبا غير كريم . لنتمعن في كل هذا السيرك المنصوب أمامنا خاصة هذه الأيام ،والقاعدة كانت ولا تزال شر البلية ما يضحك .إذن، رفع الشعب تلقائيا الصور في كل مكان وتكاثرت نداءاته . لكن نظرا لإصرار منقذ البلاد على صمته ، قررت الجماهير الزحف على قصر قرطاج ومحاصرته والنوم في العراء إلى أن يخرج الرئيس ليطمئنها على مصيرها . وفعلا خرج صانع التغيير ليبشّر الشعب أنه قرر أن ينجح في الانتخابات المقبلة ب% 97.896 ففرح الناس ورقصوا في الشوارع إلى الصباح.ومن الغد عادوا لنقاشاتهم معلقين بحماس على انتقال نادي " ارقد لهم في الخط" إلى المجموعة الثانية بعد هزيمته في الشوط الثاني أمام نجم " اللي خاف نجا" ... وكل الهمّ منصبّ على ما تخبؤه المباراة النهائية للفوز بكأس النذالة الوطنية بين نادي " اخطا رأسي واضرب" ونادي " ينصر من صبح ".أما في المعارضة فالشغل الشاغل لها هذه الأيام هو من سيشارك الرئيس في فرحة العرس الانتخابي، ومن سيتقاسم ال % 2.104 التي تفضل بتركها لتسعة أحزاب من الديكور المعترف به وثلاثة أحزاب للديكور غير المعترف به .
وبخصوص هذا النمط الأخير من المعارضة، ثمة من أعلنوا أنهم عزموا وتوكلوا ، لكن ترقبوا تكاثر الترشحات الإشهارية لينال كل نصيبه من الاعلام و الزعامة الوهمية. لا أعلم من "سيغدر" بمنافسيه، فيسارع الأول لإضراب الجوع الإلزامي دفاعا عن حقه في المشاركة في اللعبة المغشوشة. هنا يأخذني التثاؤب وأنا أتصور السيناريو الركيك الذي اصابني منه قرف ما بعده قرف .يصدر البلاغ الطبي رقم 1 :
معلنا قلق الأطباء حول تدهور صحة المناضل . بعد يومين يصدر البلاغ الموالي لإعلام الشعب " المتملّح " بأن المناضل قد نقل للمستشفى على وجه السرعة لأن الضغط هبط له كثيرا.
وهناك يصدر البلاغ الطبي رقم 3 لإعلام الرأي العام الدولي بوصول قلق الأطباء ذروته لأن الرئيس الافتراضي المدافع عن حقه في الرئاسة الحقيقية ، يفقد كيلوغراما في اليوم، وهو ما أجبرهم على إحالته على قسم الأطفال ، علما وأن تواصل الإضراب قد يفاجئ أطباء القسم المذكور أعلاه بذوبانه كليا واختفائه حتى من سرير الرضع الذي وضعوه فيه .هنا يفرض السيناريو أن يأخذ كل وطني غيور التلفون ليترجى المناضل الكبير بوقف إضرابه حتى لا " تترزى " تونس فيه - علما وأن تونس غارقة في مشاكل الغلاء واختفاء الحليب والديون المتراكمة ، وآخر ما يهمها مشاكل المسكين . من حسن حظ البلاد أن البطل يقرر الاستجابة لنداء الجماهير، فيشرب كاس حليبه الأول منذ أيام طويلة تحت وابل من التصفيق. ومن الغد يعلن المرشح المزمن لترشح صوري في انتخابات وهمية ، حتى قبل نهاية فترة النقاهة، تسجيله من الآن في انتخابات 2014 و2019 و2024، واذا أطال الله في عمره وبغض النظر عن بقاء تونس أو زوالها ترشحه لسنة 2029 .
عزاؤنا في كل هذا الهدر أن النشاط النضالي لا يتوقف. فبعد اعتراف جماعة 18 أكتوبر بعظم اللسان أنهم ليسوا جبهة سياسية ، أن آخر ما يهمهم تنظيم مثل هذه الجبهة التي يتطلبها الوضع بكل إلحاح لإنقاذ تونس من ديكتاتورية مشينة ...ازدان المشهد الوطني بهذ المؤسسة الثقافية الجديدة التي قررت تعميق النقاشات الهادفة بين الخمسين زعيم وزعيمة المشكلين للميكروكوزم .إنه لمن دواعي الفخر أن نرى نادي 18 اكتوبر ينظم محاضرة لراغب علامة عن الإرث في الأغنية العربية المعاصرة ... أن نرى كوكب الشرق أم كلثوم تدعى لمقرّ التقدمي الديمقراطي لإلقاء محاضرة حول مفهوم الإرث عند القصبجي . وعلى ما يشاع فإن الدكتور المرزوقي عرض على المنظمين أن يقدم هو الآخر مداخلة بعنوان " هل سيترك لنا بلحسن وأخته ما نرث رجالا ونساء " . لكن الجماعة اعتذرت أن القاعة مشغولة لتنظيم الأعراس .
ولأنه فهم أن المحاضرات التي يشتمّ منها استفزاز السلطة غير مرغوب فيها ، عرض عليهم أن يحاضر في" الإرث بين الليبرالية المتوحشة والماركسية المتكلسة ". لكنهم رفضوا ، مثلما رفضوا عرضه بالاقتصار على " آفاق الإرث في ظل الاحتباس الحراري". وفي محاولة يائسة لدخول نادي 18 أكتوبر الذي اقصي منه،عرض أن يكون عنوان محاضرته " الإرث في فكر بن علي " لكنهم أعرضوا عنه. وعندما حاول لعب ورقته الأخيرة عارضا أن يحاضر في " الإرث في فلسفة خميس الشماري" طردوه شر طردة ، مما اقنعه أنهم لا يريدونه حقا، كونه متطرف وراديكالي ومتشدد ويريد الزعامة التي لا يريدونها إلا لأنفسهم .هنا فكّر المسكين في اللجوء للرابطة لإنصافه خاصة وأنه رئيس سابق لها . المشكلة أن الرابطة لا تهتم اليوم بأي قضية باستثناء مؤتمرها التي تريد ، ولا تريد، عقده في أقرب فرصة . من منكم لم يسمع طوال هذه السنوات عن مؤتمر الرابطة وكيف أجّل مليون مرة ؟ هذا ما يجعل رئيس الرابطة يصرخ في السكرتيرة: يا بنت، البيان " ستانادرد "، فتأتيه السكرتيرة بالنموذج رقم1 "إن الرابطة ، هذا المكسب الوطني الهام والتي لا تمارس السياسة وليست ضد النظام، وتقول للمخطئ أخطات، وللمحسن احسنت ، ومن باب قناعتها أن مبدأ المحافظة على " الشقف" بالسلعة وبدونها ، هو حجر الزاوية في الشخصية الوطنية .تستبشرتشجبتدينتطالب( هنا يملأ الرئيس عادة الاستمارة بقلم حبر ازرق جميل ثم يمضي ويمضي لحاجاته )لكنه يصرخ هذه المرة : يا بنت، أقصد البيان "الستاندارد" بخصوص المؤتمر . هنا تأتيه السكرتيرة بالبيان "الستاندارد" رقم 2 "إن الرابطة ، هذا المكسب الوطني الهام والتي لا تمارس السياسة وليست ضد النظام، وتقول للمخطئ أخطات، وللمحسن احسنت ، ومن باب قناعتها أن مبدأ المحافظة على " الشقف" بالسلعة وبدونها هو حجر الزاوية في الشخصية الوطنية .تثمن موقف السلطة التي سمحت بفتح مقر الرابطة المركزي وأبدت تفهما مشكورا بخصوص عقد المؤتمر.تحتج على تواصل عرقلة السلطة لمؤتمرها وغلق مقرات الفروع في الجهات .هنا يشطب الرئيس الجملة التي لا تتماشى مع الظرف المتقلب ، ثم يمضي ويمضي لحاجاته غير عابئ بنجاح السلطة الخبيثة في تجميد المؤسسة .مسكينة هذه الرابطة التي لا زالوا يفاخرون بأنها أعرق رابطة حقوق إنسان في أفريقيا والوطن العربي .
في أواخر الثمانيات كان تسعين في المائة من عملها لحقوق الإنسان وعشرة في المائة للمشاكل الداخلية . في بداية التسعينات توزّع الوقت والجهد نصف نصف . عشية مؤتمر الخيانة في فبراير 1994، قلت لأحد أصدقائي النسبة الآن تسعة وتسعون في المائة للصراعات الداخلية وواحد في المائة لحقوق الإنسان . اليوم النسبة تسعة و تسعون في المائة للمؤتمر وواحد في المائة للصراعات الداخلية ، أما حقوق الإنسان فلها كالكعبة رب يحميها .اذكر سنة 1992 عندما أرادت السلطة تعويم الرابطة بآلاف الانخراطات المدسوسة وسنت قانونا لإجبارها على قبولها ، أنني قلت آن الأوان للمقاومة لآخر نفس . ويومها مارس عليّ أقرب الأصدقاء ضغوطات هائلة لأقبل بالقانون على أمل المحافظة على الأقل على " الشقف " التعيس، والله يغفر لك يا حشاد الذي طلعت علينا بقصة الشقف والسلعة هذه التي استعملها بعدك كل الجبناء والانتهازيون لتمرير وتبرير جبنهم وانتهازيتهم . كان موقفي ان الحرة تموت ولا تأكل بثدييها، وأفشلت كل محاولة لقبول قانون كان سينهي استقلالية المؤسسة ونضالها ويقدمها هدية على طبق من ذهب لأعداء الوطن والإنسان . ولما أخبرنا عشية يوم 12 جوان وزير التعذيب عبد الله القلال أن الرابطة منحلة قانونيا ، قلت في نفسي : دافعنا عن كل المظلومين ، حملنا مشعل القيم ، ناضلنا إلى آخر رمق ، ولم تسقط الرابطة في أيديهم القذرة ، تمت المهمة على أحسن وجه،.يمكنني الآن أن أرجع لبيتي مرفوع الرأس . البقية تعرفونها . وها هي المؤسسة اليوم خراب على خراب... ولا أحد يقول كفى. نعلن تجميدها... نقول للعالم لا يوجد رابطة حقوق إنسان في هذا البلد ، لأن الدكتاتورية لا تقبل إلا بكل ما هو ممسوخ و مزيف و مخترق ومفوّض . عوض هذا يفضلون منذ سنوات اللعب مع الغشاشين و تواصل مسخرة يظنون أنها تعطيهم ذريعة لإدعاء الوجود.ماذا بقي بعد الرابطة ؟ الالتجاء للقضاء طبعا ، وهو كما يعلم الجميع مفخرة تونس التي أنجبت ابن خلدون القائل " العدل أساس العمران" . إنها المقولة التي نقشها قضاتنا الأفاضل في أفئدتهم وجعلوا منها رايتهم واقفين على مر العصور ضد أعتى الطغاة . كل هذا التاريخ المشرّف سبب المثل الأمريكي" أعدل من تونسي تولّى القضاء" ، والمثل الفرنسي "إن أردت العدل في هذا العالم ، ابحث عنه بين صقلية والصحراء "، والمثل البلغاري "الشمس في السماء والجور في بلغاريا و العدل في تونس".يا الله كم غالبت ضحكي طيلة هذه السنوات في محاكم مثلت فيها تراجيديات هزلية أتمنى أن تجد يوما من يخرجها للمسرح والشاشة .
ثمة فصول محاكمات الحق العام التي حكم عليّ سنوات بالتفرج عليها، لأن التقاليد تقتضي ألا يأتي بمتهمي السياسة إلا في آخر الحصة ، أملا أن يملّ الملاحظون الأجانب ويذهبوا للقيلولة . هكذا ملأت كناشي بملاحظات عن مهازل البشرية التونسية استعملت البعض منها في كتابي الرحلة . مما أذكره سرعة "القضاة " الرهيبة في إصدار الأحكام والملفات مكدسة امامهم إلى عنان السماء . آش اسمك .. ستة أشهر...اش اسمك ، سبعة سنين ....آش اسمك عشرة سنين . ورغم تشديد العبس على ملامحي حتى لا أنفجر ضاحكا، فإنني لم اتمالك نفسي يوم قال "القاضي" للمتهم: سرقت أربعة عجلات مطاطية للشاحنة الريفية ، كل عجلة عامين، المجموع ثمانية، نقسمهم على اثنين لأنك بلا سواق ، الحاصل أربعة. بعده .وبعد المفتحات تأتي المسرحية الرئيسية ، والممثلون الخردوق" الجالس بين أكوام الملفات، و حطام بشر مورست عليهم أفظع انتهاكات الروح والجسد ،ومحامون لا يغفر لهم تطوعهم ومثاليتهم تواصل المشاركة في المسرحية الحقيرة. المسألة كيف سأحافظ على جديتي عندما يبدأ بعضهم في رفع أصواتهم الرنانة (والتي أظن أنهم يعملون عليها ويتمرنون على تنميتها كما يفعل مطربو الأوبرا الغربية) متوجهين إلى الخردوق الجالس أمامهم يتأمل أظافره بجمل من نوع: وحيث أن القضاء هو حامي الدستور، وطبقا للفصل رقم كذا وكذا ، واعتمادا على علوية المواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس ....كل هذا والخردوق ينتظر بنفاذ صبر متزايد أن ينتهي كل هؤلاء الثرثارون من جعجعة طواحينهم ليصدر حكمه الجاهز ويسرع لبيت الراحة لأن مثانته على وشك الانفجار... واللعنة على هذه المحاكمات السياسية بطول مرافعاتها والمشاكل التي توقعه فيها ...وآه لو لم يتورط في قضية الرشوة البسيطة التي مسكوه بها ، لما تأخر في تقديم شهادة مرض لهذا اليوم حتى يفلت من ابتزاز وزير الظلم بالقانون.وبخصوص هؤلاء الخراديق أذكر واحدا منهم كان يحمل نظارات ولحية مذببة، حكم على أخي محمد علي في قضية عدم الالتزام بالامضاء اليومي في مراكز الشرطة بعد تمضيته سنتين سجن في برج الرومي سنة 1992 . وكانت السلطة طيلة التسعينات تنقض عليه كلما قمت بمبادرة سياسية وتلفق له قضية . يومها قال لي صديق رافقني للمحكمة لن يتجاسروا على الحكم عليه في نفس القضية للمرة الثالثة. قلت أنتظر ، سترى ما يقدر عليه نظام " لا ظلم بعد اليوم" . وفعلا نكس الخردوق راسه وحكم على محمد علي بستة اشهر سجن جديدة لتهمة كاذبة حكم عليه فيها مرتين. قلت للمحامي : الظاهر أن سعادة القاضي خائف أن ينقلوه لقبلي . فتطلع إلي باستغراب: لكننا في قبلي . قلت هذه هي المصيبة ، في قبلي ومع هذا ما زال خائفا ان ينقلوه لقبلي...أو أن ينسوه فيها .ذلك لأن قضاتنا العظام غير مستعدين للحكم بالعدل إلا إذا وفرت لهم الدولة ضمانة عدم النقلة لأماكن مثل قبلي وضمانة الترقية الآلية . كأن لسان حالهم يقول طالما لا تعطينا الدولة ضمانات ضد النقلة التعسفية والحق في الترقية، سنشبعكم ظلما وتبعية خانعة للسلطة ، لأن ما يحركنا ليس شرف المهنة والشرف الشخصي والواجب الوطني وإنما الخوف والطمع.وهذا النظام القضائي البائس ظل باهت للنظام السياسي المستبد ، ومن ثم لا تفاعل معه إلا بالرفض المطلق.آملت دوما أن يحذو المتهمين مثالي عندما رفضت أن يرافع عني محامي أو أن أستأنف الحكم الصادر بحقي بسنة سجن في 2001...عبثا . آملت ان اقنع المحامين بأن هناك طرق أخرى للدفاع وتكسير الآلة في نفس الوقت ...عبثا. آملت ان يخرج من السرب البغيض قضاة لم يمت فيهم الواعز الأخلاقي والديني ..عبثا . كل الأطراف واصلت، وتواصل، لعب دورها بحذافيره في مسرحية كاتبها ومخرجها قابع وراء الستار يتفرج ويضحك محتقرا الجميع .ما الذي يجعل كل هؤلاء الناس يلعبون الدور المحدد لهم وهم يعرفون أنهم مجرد دمى تحركها خيوط القابع وراء الستار ؟ الرد : الطمع في الفتات بعد أن استولى الكاتب والمخرج على " الزردة" . المتهمون يأملون فتات التخفيض إن زايدوا في المذلة ....المحامون يجرون وراء فتات الشهرة بمرافعتهم المجلجلة التي " حمروا فيه وذنين النظام " ....أما أشباه القضاة فيحلمون بفتات الترقية والنقلة ، وحتى بفتات الاعتراف لهم من قبل المحامين والمتهمين برحابة الصدر لأنهم استمعوا دون مقاطعة لشهادات التعذيب الرهيبة... والتي لم يأخذوها بالطبع بعين الاعتبار. والنتيجة تأخر فقع هذا الدمل واستئصال هذا الورم المسمى الظلم بالقانون . إنه اليوم وغدا أساس الخراب... خراب مؤسسة القضاء ...خراب قيمة العدل...خراب أرواح كل المشاركين في المهزلة ....خراب العمران الذي حلم به ابن خلدون وما زلنا عاجزين عن تحقيق حلمه وحلمنا . كل هذا بسبب التسسم بالخوف والانتهازية ...بالانخراط في عقلية وممارسات الجبان الذي لا خيار له غير التمني و المطالبة والانتظار وتسبيق الخير وتوصيل السارق لباب الدار، والاحتجاج المؤدب والمسارعة للشكر على أي منة وهبة ومكرمة. كل هذا مردّه في آخر الأمر العجز عن القطع مع الفاسد والمتعفن بتعلة الوسطية والاعتدال والتدرج المسالمة والمصالحة والحب الإلهي والبشري.راطزة "جديدة انتجتها هذه العقلية التي قد لا توجد إلا في تونس : قوم يمكن تسميتهم بالإسلاميين المسيحيين. إنهم متطرفو الوسطية ، غلاة الاعتدال ، متشددو التسامح ... ناس يزايدون اليوم حتى على المسيح- الذين يجهلون أنه كان ثائرا ومتطرفا بل وإرهابيا في عرف طغاة زمانه . موقفهم إذا ضربكم الدكتاتور على الخد الأيمن فقولوا له زدنا يا مولاي من الصفع ثم أديروا له آنذاك خدكم الأيسر. شعار هؤلاء الناس خذ وطالب . خذ صفعة وطالب. خذ ركلة في المؤخرة وطالب. خذ بصقة وطالب. المهم ليس ألا تأخذ شيئا ( أو أن تأخذ لاشيئا ) وإنما أن تحافظ على روحك المطلبية العالية. أين نظّر للتسول كإيدولوجيا وكأداة في السياسة إلا في تونس ؟ أين سمعت عن معارضين خارج تونس يطالبون الدكتاتور بالإشراف على مجلس وطني يضم كل الأحزاب ليكون سيادته هو المبادربمنح الديمقراطية التي عجزوا عن فرضها عليه . ما أقترحه عليهم هو أن ينادوا محرز الهمامي ليرأس ندوة حول إصلاح القضاء ، وعبد الله القلال للإشرف على دورة تدريبية للشرطة عن مقاومة التعذيب . على من يدجل هؤلاء الناس ؟ على الدكتاتور ؟ علينا ؟ على أنفسهم ؟ ما أريده كطبيب هو فحص بجهاز السكانار على أدمغتهم . قد تكون المسألة طبية بحت ونحن نظلم هؤلاء المساكين ، فكثير من الأمراض الخطيرة تبدأ تدريجيا بضعف في المدارك الذهنية. ربما تظنون أن هناك مخابرات غربية وراء ظاهرة المتسولين الجدد . خطأ ، فحتى أخبث الأجهزة لا تتجاسر على خلق هذا النوع من الناس .هم نتاج مقولة الحقيقة ( التونسية) دوما أغرب من الخيال.هنا لا يجب أن نغفل عن مسخرة اسمها الأحزاب وما أدراك ما الأحزاب . لنبدأ وننتهي بالحزب الذي أترأسه من باب الأقربون أولى بالمعروف ولأن الأحزاب الأخرى لا تستأهل حتى الشتم . هذا حزب يتفق على أطروحاته أغلبية الناس، وحتى من داخل الأحزاب التي تحاربه قياداتها بشراسة . لكن الكل ينظرون له بتعجب وإعجاب ولسان الحال يقول اذهب وقاوم أنت وربك. هكذا عوض أن يدخل الناس فيه أفواجا ، يخرجون منه الواحد بعد الآخر ، أرهقهم طول الطريق وصعوبته ، خاصة بعد أن اتضح أنه قد يكون حزب الخمسين سنة المقبلة، لكنه قطعا ليس حزب الخمس سنوات الآتية ونحن قوم لا نراهن على الزمان لاستغلاله وإنما على الفرص ننتهزها.المهم أنه إذا تواصل النزيف، فلن يبقى في "المؤتمرمن أجل الجمهورية " إلا الرئيس ونائبه. لكن بما أن الرئيس يطالب منذ ثلاث سنوات بالتنحي (تماشيا مع مواقفه الداعية للتداول على المسؤولية) فلن يبقى إلا نائب الرئيس ليصبح رئيسا... لكن على لماذا ؟ تصوروا الآن أن الرئيس الذي لا نائب له ، قدم استقالته لنفسه وقبلتها نفسه من نفسه . آنذاك سيصبح المؤتمر أول حزب هلامي ، مجرد ، عائش في فضاء أفلاطون ، بلا رئيس ، بلا مكتب سياسي ، بلا فروع في الجهات ، بلا منخرطين ، بلا ممثلين في البرلمان . حزب شبح ... شبح سيأتيهم ( الخصوم والأصدقاء) بالكوابيس لأن الهياكل تموت وتبعث، لكن القيم النبيلة والأحلام العظمى والصور النمطية للثوار خالدة أبد الدهر.هنا تقول لي راسما ابتسامة الشفقة على ملامحك المكيافيلية : أنت متأكّد أم تخطب علينا لتبرر فشلك ؟ طبعا لست متأكدا، وكل ما في الأمر أنني ألجأ إلى بروباقندا غير مكلفة للاستهلاك الذاتي ،وذلك أملا في الحفاظ على ما تبقى من معنوياتي .لكن من أين الحفاظ على هذه المعنويات و مسخرة المساخر وذروتها بداهة كاتب هذه السطور بإصراره طوال ربع قرن على النفخ على الرماد، والحرث في البحر، والزرع في الاسمنت المسلح، والسقي في الرمل ، والصراخ في الصحراء ، والجري وراء السراب ؟الدليل على ذلك مشيه يوما في شوارع سوسة والقنطاوي والكاف ، وأوباش يتعقبونه بالسب والبصاق ، وأحدهم يضع اصبعه في مؤخرته ، وترميه الشرطة السرية بعاهرة تدعي انه اغتصبها، وتحاصره الغوغاء في سيارة مشرفة على الانقلاب ، والبوليس يضحك ويصوّر... والناس تتفرج. * كل هذا يجعلني أعود للهاجس الملح علي منذ سنوات : الاستقالة ليس فقط من كل التنظيمات ومن الطبقة السياسة وإنما من أصل البلاء كله : تونسيتي.نعم لقد غسلت يديّ تدريجيا من السلطة منذ بداية التسعينات، ومن المعارضة منذ بداية الألفين ، كما غسلتا هما أيضا أيديهم مني. لم يبق إلا أن أغسل يديّ من الشعب التونسي برمته .أكون كاذبا لو قلت أن عملية قطع الحبل الوريدي سهلة وغير موجعة . أذكر أن صديقا " برّاني" عاد من تونس وقال لي في معرض الحديث : حقا إنه بلد جميل . فصرخت فيه غاضبا جميل وبس ، كامل الأوصاف تقصد. ثم نكست رأسي مضيفا والغصة في الحلق: للأسف فيه عيب وحيد يفسده كنقطة الدم في البيضة التي يريد الجائع قليها. قال ما هو . قلت عيب تونس الوحيد أنها ملآنة بالتوانسة. قال فاتحا عينيه على الأقصى: أنت متأكد . قلت طبعا أنا متأكد، فباستثناء بعض السواح، كل سكان تونس توانسة : الدستوريون الإسلاميون، الشيوعيون ،الطلبة، الصحافيون ، القضاة ، الحاكمون ، المعارضون ، المثقفون، الجامعيون ، المحامون ، الجالسون أمام التلفزيون وغزة تحتضر ، القاعدون في المقاهي يرضعون الشيشة وغزة تموت ، كلهم توانسة. فضرب الرجل كفا بكف صارخا لا حول ولا قوة بالله . قلت: الأدهى والأمر أنه حتى النساء والأطفال توانسة . قال إذن وضعيتك حقا ميئوس منها . قلت إنه الاستنتاج الذي وصلت إليه. ثم أضفت متنهدا: آه لوكانوا على الأقل اقلية يمكن وضعهم في مخيمات لاجئين وفرض حظرالتجول عليهم أربعة عشرين ساعة في اليوم . لكن ما الذي اقدر عليه وهم الأغلبية واصحاب بلد لا يستأهلونه؟نعم ما الذي أقدر عليه باستثناء الاستقالة. وهذا نصها كما نقشته بعد أشهر طويلة من العمل عليه ، وهو كما ترون بليغ ومقتضب قصدا ، مليء بالتقريع الصامت مفعم بالمرارة الموحى بها، وبالحزن الذي نتمنى أن يصيب القراء بأزمة تبكيت ضمير لتفريطهم في رجل عظيم مثلي .لكن لنعد للموضوع حتى لا يكون التعليق على النص أطول منه . إذن : أنا فلان الفلاني ، تونسي للأسف أبا عن جد ،أقدّم استقالتي من المجموعة الوطنية والسلام .يا إلهي ما أسهل القطع مع الشقاء عندما تتوفر إرادة الكف عن تعذيب النفس! سطر واحد وانتهت كل صلة لي بشعب اخترع أبشع أمثلة تمجد الجبن والانتهازية بل ويردد بلا حياء كم من مرة في اليوم ، "أخطى رأسي واضرب " !سطر واحد وانتهت علاقتي بنظام السيد الوالي، ومعتمد الشؤون الدينية، وكاتب عام لجنة التنسيق، والقاضي الفاسد، والشرطي قاطع الطريق، ومؤتمر الرابطة،ومشاكل الإرث والأصالة والحداثة، والنساء الديمقراطيات، و18 أكتوبر، والانتخابات التسعينية، وإعلام " الملاحظ " و"الحدث" و"الصريح" و"الشروق" و"بالمكشوف" ....ودكتاتور فاسد وكذاب تسبب في تعذيب ما لا يقل عن ثلاثين ألف إنسان، لكنه يحتفل بالعاشر من ديسمبر ويوزع ويتلقي جوائز حقوق الإنسان . ما أحلى أن أنهي كل علاقة بكل هذا الخرم .تبقى فقط المشاكل العملية وقد انزاح الجبل الجاثم فوق صدري منذ نصف قرن. الحق يقال أن الدكتاتورية كانت ستخلصني منها كلها . لكن المرازيق سامحهم، أو لا سامحهم الله، غضبوا من صدور بيان مزوّر باسمهم في جريدة الكترونية بائسة يطالب بسحب جنسيتي، فكتبوا بيانا مضادا. قد تكون هناك اعتبارات اخرى لتوقف زبائن الدكتاتورية عن الفكرة العبقرية التي لو مشوا فيها لخلصوني منها ومكننوني من القول بيد عمر لا بيدي. المهم أنني مواجه بآخر مشاكل تونسيتي أي أعباء تصفيتها ... وأولها لمن سأبعث باستقالتي هذه ؟قطعا ليس للعصابة المتسلطة وزميمها بما أنني لا أعترف له أو لها بأي شرعية .التوجه مباشرة لصاحب السيادة، ولو أنها مصادرة ،ولصاحب الشرعية، ولو أنها مغيبة ونظرية، أي ما يسمى الشعب ؟ لكن تصور ما ستكلفني 11 مليون رسالة من مال ومن لعاب ومن وقت للصق طوابع البريد ، هذا على افتراض أن شرطة الاتصالات ستسمح بإيصالها . ثم تصور ذهول الرضع والشيوخ والمرضى والأميين، وهم يتسلمون رسالة من مجهول يعلمهم باستقالته من تونسيته .قد يكون الحل الأمثل في عصر الفضائيات أن أتوجه بالإعلان المدوي عبر"الجزيرة" . لكن ماذا عن مسؤوليتي وأنا رجل جعل دوما من الشعور بالمسؤولية ركن أخلاقه . تقول أي مسئولية بما أنك استقلت من تونسيتك . من حدثك عن مسؤوليتي تجاه تونس ؟كلا، ما أقصده مسؤوليتي تجاه موريتانيا. تقول وما دخل موريتانيا في هذه القصة . شغل دماغك لحظة، فالله أصاب التونسيين بالتبلد الأخلاقي لكن أذكى منهم وأخبث لا يوجد . بديهي أنني لست الوحيد الذي طلعت روحه من تونسيته. تصور أن الخبر انتشر كالنار في الهشيم ، أن خمسة ملايين تونسي على الأقل، قرروا هم أيضا أنه لم يعد أمامهم من حل غير الاستقالة . اين تريد أن يفروا وقد أغلقت الحدود نحو الشمال، والديمقراطية العربية الوحيدة التي يستطيعون التنعم فيها بالحرية والتحرك دون أن يتبعهم ويسبقهم شرطي يصرخ فيهم " بطاقة التعريف"، هي موريتنانيا؟لكن هذا بلد فقيربالكاد يطعم سكانه ، من أين له استقبال خمسة ملاين فار من جنة الاستقرار والتقدم الاقتصادي ؟ ماذا لو صرّح وزير الخارجية الموريتاني : سنقطع رجل كل تونسي يتجاسر على حدودنا المقدسة . ربما ستحدث مشاكل دبلوماسية خطيرة وتنشب الحرب بين البلدين الشقيقين. ثم ماذا لو اضطرت الحكومة الموريتانية المسكينة للرضوخ للدكتاتور وتسليمه الفارين ليقول القضاء كلمته في التهم المعلقة بهم مثل عبور الحدود خلسة وتشويه سمعة الوطن المفدى. آنذاك كيف ستكون المحاكمات والطوابير بالكليلومترات أمام المحاكم والقاضي يصرخ في البوق : الألف الأوائل خمسة سنوات ، الألف الثانية عشرة سنوات ، الألف الثاثة الإعدام ، فيتدافع الناس لاحتلال موقع الألف الأولى ، مما يؤدي إلى حوادث مؤسفة كالتي تحصل في الحج وتسقط الأرواح البريئة تحت الأقدام العصبية . كلا ، رجل نزيه مثلي لا يقبل بمسؤولية موت هذا العدد من البشر حتى ولو كانوا توانسة .بداهة يجب أن تبقى الاستقالة سرية حتى لا تتسبب في اضطرابات لا يدري أحد إلى أين يمكن أن تؤول. لكن إذا بقت سرية فأي قيمة لها وأنا أريدها صرخة احتجاج وصرخة استنهاض وإن كانت أيضا وربما خصوصا, صرخة ألم لا يطاق. * والآن وقد نفّسنا عن كل مشاعر القهر، علينا دعوة الهدوء واستعادة التحكم في الوجع، حتى نقضي عليه نحن ، ولا يقضي هو علينا .والقاعدة التي أعرضها عليك هو أنه لما تفقد كل أمل في الناس وفي النفس ، ولما يداهم الظلام روحك ، عليك بوسيلة واحدة لا غير تسعيد بها ابتسامتك ، وهدوءك، ووقارك، وكامل قواك . يكفي أن تلجأ إليها حتى تنتظم دقات القلب ويتباطأ التنفس وينزاح عن الصدر كل ثقل...فتتوضح الرؤية ...وتبان معالم الطريق الذي ضاع لحظة في إبهام الضباب.صدقني. لا وسيلة غيرها أو أنجع منها لتفادي الاننهيار العصبي ومواصلة المشي في الطريق الطويل بعزيمة متجددة. وهذه الوسيلة ككل الوسائل الناجعة، بسيطة ، سهلة الاستعمال ، وفي متناول كل يائس، محبط ،مستقيل، مؤمنا كان أو ملحدا.والآن انتبه لما سيأتي. قد لا تكون قرأت شيئا بمثل هذه الأهمية منذ زمن طويل.هذا المرهم الفعال على كل جروح الروح هو ما سنسميه لجهلنا بطبيعته الخفية : الشيء . لنبدأ بما هو معروف عنه .أولا هو ثابت الوجود ، ووجوده هذا كوجود الجنين في أحشاء الأم ، أو وجود تباشير الصباح في ظلمة الليل . إياك أن تعتقد هنا انني أبيعك بلاغة وشعرا أخلط بين رغباتنا والواقع . نحن هنا في قلب القوانين المهيكلة التي تحرك العالم وكل مكوناته ، ومنها المجتمعات الحية والبشرية على وجه الخصوص.ثاني قانون يتحكم في الشيء أن وجوده مرتبط بوجود نقيضه ، بل قل هو يولد من هذا النقيض . ففي الموضوع الذي يشغلنا،يمكن القول أن كمية الجبن والنذالة والانتهازية السائدة اليوم في مجتمعنا - وهذه هي المفارقة- هي التي تبذر وتتعهد في العقول والقلوب ، بوسائل غير مفهومة لأنها سرية وصامتة... القيم المعاكسة ! إذا كان القانون الأول للشيء ( وجوده كجنين ) يذكر بقوانين البيولوجيا ، فإن القانون الثاني يذكّر بقانون الفيزياء التي تسن على أن كل قوة تؤدي إلى ظهور قوة في الاتجاه المعاكس وبنفس الطاقة . انظر أبطال غزة . بقدر ما تسلط عليهم العصابات الصهيوينة نيرانها بقدر ما يقاومون . بقدر ما تشدد العصابات الصهيونية قبضتها بقدر ما يصلب عود المقاومة البطلة وترتفع قدرتها على المواجهة. حتى في بلادنا التي استكانت للذل بكيفية لا تعرف في أي مكان من الأرض ، كم من حنين بداخلها لعودة الجرأة والشجاعة والمرؤة والشهامة والرجولة والعدالة والحرية.هذا الحنين هو بذرة الجنين المتكون بصمت في رحم واقع ليس بالبساطة التي نخال ونخشى. معنى هذا أنه يوجد وراء الستار الذي تعرض على شاشته المهازل المبكية عمليات بالغة التعقيد... للتعلم من كل الأخطاء التي ارتكبناها جميعا في حق الوطن وحق أنفسنا وحق إنسانيتنا ...للتجاوز ... لإعادة التوازنات التي اختلت. نحن ، وبدون وعي، نربي داخل عقولنا وقلوبنا " مشتلة" جديدة من قيم العروبة والإسلام . ما لا نعلمه الآن عن الشيء هو متى ينضج.أحيانا يتطلب الأمر قرونا. سنة 1346 كاد الوباء أن يقضي على أوروبا ، وتتابعت موجاته إلى القرن الثامن عشر ... والشيء - الذي اسمه هنا نهاية الطاعون- كامن في رحم أحداث لن تتمخض عنه إلا سنة 1944 عند اكتشاف أولى المضادات الحيوية التي جعلت منه مرضا بسيطا .إلى موفى سنة 1865 كانت العبودية تقصم ظهر السود في أمريكا وهم بالكاد يعتبرون بشرا من طرف سادتهم البيض ... والشيء- الذي اسمه ضربة قاصمة للعنصرية- كامن في رحم أحداث ستتمخض سنة 2008 عن ظاهرة اسمها باراك اوباما، والبيض هم أكبر الأنصار لحفيد العبيد .سنة 1881 انتصبت الحماية الفرنسية في بلادنا... ومنذ اللحظة التي وقعت فيها المعاهدة بدأ تنامي الشيء - واسمه هنا الاستقلال الأول- الذي لم يفرح به إلا جزء من الشعب سنة 1956 .السؤال بالطبع ما المسافة الزمنية التي تفصلنا بين الشي ء واسمه هنا الاسقلال الثاني ؟نعم متى سنرى رئيسا منتخبا و قضاء مستقلا وصحافة جديرة بهذا الاسم وأحزابا حقيقية وشرطة في خدمة الشعب ومنظمة مدنية تراقب خزينة الدولة وتقيم الدنيا وتقعدها لأن الموظفون يتركون الأضواء في مكاتبهم بعد الانصراف متأخرين من مكاتبهم ليلا ؟ متى سنرى ساسة لا يفرطون في ذرة واحدة من حقوق الشعب ، لا يسبقون الخير وإنما كل الحذر...كل الشك ...كل سوء النية في أي ماسك بالسلطة ... ناهيك على أنهم ويوقفون السارق وهو لا زال عند الأفق ؟ الأهم من هذا متى ستكون أكثرة أمثلتنا انتشارا "لن تضرب أحدا وإلا كان عليك أن تبادر برأسي " ،" ينصر من عدل" " الذي تشجع نجا" ، لا ترقد لهم في الخط ...أدفنهم فيه" ؟ متى سيكون شعار كل واحد منا "رأسي دوما إلى العلى مرفوع " أو " حقوقي أمارسها ولا أطالب بها" وقد اختفى الجبناء والمنافقون والانتهازيون والإسلاميون النصارى وجماعة سبق الخير ووصّل السارق لباب الدار والمهم أن نحافظ على الشقف وبخصوص السلعة يرحم الله . متى سنعيش في وطننا بلا محاكمات سياسية ، بلا سجناء رأي ، بلا بوليس في كل تقاطع طريق ، بلا فساد ، بلا خجل من عروبتنا وتونسيتنا ؟لا أحد يعرف . قد يكون الطريق اصعب وأطول مما نتصور حتى ونحن في قمة التشاؤم . قد يجهض الشيء مرة ومرة ثانية ومرة ثالثة... وفي كل مرة نعود لنقطة البداية .ما يثلج صدورنا ويقوي عزائمنا ويجعلنا نعض على الجرح ونواصل أنه موجود ...أنه يتنامى يوما بعد يوم ...أنه يتوسع وينتشر ويتعمق ويتجذر ...أنه يعود بعد كل إجهاض ...بعد كل مرض ...بعد كل اغتيال ... وأنه يترصد بالذين استحلوا كرامتنا ونسوا أنهم بهذا لا يستحلون إلا كرامتهم .والآن انتبه أن الشيء ليس دوما إيجابيا وذلك بفعل القانون الذي اوجده. حقا الظلمة حبلى دوما النور ، لكن النور هو الآخر ممشى يعود عليه الظلام . معنى هذا أنه ، يوم نحقق الاستقلال الثاني، علينا الانتباه أن كل ما انتصرنا عليه من فساد وجبن وظلم وانتهازية وضعف ونذالة وتزوير وتزييف وتضليل ...كل هذا الخرم، لم يتبخر وإنما توارى وراء الستار يتهددنا كما تتهدد الموت الحياة، والأمراض طفلنا الحبيب الموفور العافية و الصحة . لكن لماذا نقلق من الآن على، ومن، مرحلة لم نصلها بعد. المهم اليوم أن ننظر للمسخرة التي تتواصل تحت أعيينا بنظرة اخرة ....أن نقول لها: بكل مكوناتك زائلة انت يا مسخرة برئيسك ، بمعارضتك ، بقضائك ، ببوليسك ، بانتخاباتك، بصحافتك ، بقيمك الحقيرة وبكل ما تمثلين من إخفاق مرحلي للشعب والمواطن. انتبه أيضا الشيء الذي يختمر ببطء في قلوبنا وعقولنا ، لن ياتينا بصفة آلية على طبق من ذهب . فكل حمل وإن كان طبيعيا ، وله آلياته للحفاظ على مشروعه، مهدد بكم من أخطار، ومحتاج بالتالي لشيء من التعهد حتى يصل الموعود في وقته وفي أحسن الظروف .مسؤوليتك ، مسؤوليتكم، مسؤليتنا جميعا تعهد النبتة الغضة نسقيها بفيض حبنا لهذا الوطن الجريح، بتعميق إصرارنا على أن نحقق فيه ،هو لا غير، إنسانيتنا التي ينكرها علينا أناس أعمت بصيرتهم سلطة لم يكونوا يوما جديرين بممارستها.والآن يمكنني إعلامكم أنني سحبت استقالتي ، بل وأجدد كامل ولائي للخضراء ، وأعلم كل من يهمه الأمر أنني مواصل على طريق الشوك والوجع مهما كان الثمن و إلى آخر نفس ... أنني لم أكن أكثر إصرارا من اليوم على التمسك بشعار وقيم " المؤتمر من أجل الجمهورية" : السيادة للشعب ، الشرعية للدولة ، الكرامة للمواطن ...وإنها لمقاومة حتى ...مجيء الشيء. ** *
DR moncef MArzouki