وفي وضع الانسداد الذي أعلن الدكتاتور عن الإمعان فيه، كما كان متوقعا، فإن الخيار أمام المعارضة بسيط : إما الاستسلام و افتعال نشاط ما يوهم بالوجود ، أو تنظيم المقاومة الديمقراطية والإعداد المحكم لها عبر كل الوسائل السلمية والعلنية الممكنة، في إطار تقييم لا يستهين بقوة العدو الاستبدادي ولا يخطئ في تقدير حجم معاناة الناس واستعدادهم للدفاع عن كرامتهم لو توفر البرنامج المشترك والقيادة والخطوات العملية
يتطلب هذا رؤية ستراتيجية تعتمد على فهم عميق لما تتطلبه منا المرحلة أي طبيعة الإصلاح والمصالحة والصلح ....هذه المفاهيم النبيلة التي استولى عليها لمرحلة -انتهت بفضل الدكتاتور نفسه- السذج والانتهازيون والذين أرهقهم طول الطريق .
لقد وضع الدكتاتور الجميع أمام خيار واحد : الاستسلام أو المقاومة وداخل خيار المقاومة هناك بالطبع خيار المقاومة المسلحة أو المقاومة السياسية . والرد عليه يجب أن يكون واضحا . كما تمعن في التزييف والفساد والقمع سنمعن في خيارينا الأساسيين المقاومة والمقاومة السلمية . لماذا ؟ لنذكّر أن السياسة في أحطّ مستوياتها هي ركوب كل الأهداف النبيلة للوصول للسلطة واستعمال كل الوسائل القذرة للتواصل فيها. لكنها في أرفعها وضع الوسائل النبيلة في خدمة الأهداف النبيلة لحل مشاكل المجتمع وذلك بأقل قدر ممكن من العنف.
وقد حفظت اللغة العامية في تونس هذا المعنى العميق للكلمة حيث تعني بالمصطلح الكياسة واللطف كما يعني فيها فعل ’’سايس’’ ترفّّق أو تأنّى. ومن ثمة فإن الحرب ليست، حسب التعريف الشهير الذي حفظته الأجيال عن Clausewitz مواصلة السياسة بطرق أخرى. إنّها فشلها المؤقت. فالقاعدة التي عرفها التاريخ أنه محكوم على المجتمعات أن تدخل الحرب عندما تفشل السياسة وأن تعود إليها عندما تفشل الحرب. وإن كان هناك دليل على أن السياسة هي الحالة الطبيعية والحرب هي الاستثناء، ففي كون هذه الأخيرة طفرة مثل نوبة الصرع والحمى، تنفجر ولا تدوم مهما طالت مشكّلة مجرّد حادث ظرفي في زمن جلّه خال من الحرب.
وحتى تقوم السياسة بمهمتها لا أداة لها خارج التفاوض المتواصل بين مكوّنات مجتمع لها رؤى ومصالح مختلفة وأحيانا على طرفي النقيض. أما أهمّ ركن في هذا التفاوض فهو الإصلاح بما هو تدارك التناقضات قبل أن تصل خطَ اللا رجعة. يعرف كل من خبر أحوال وأوحال السياسة أن القاعدة الطبيعية هي كثرة الصراعات الشخصية والحزبية التي يمكن أن تنتقل من معارك سلمية لمعارك قاتلة، ومن ثمة ضرورة الركون للمصالحة الدورية بين الفاعلين السياسيين لنزع فتيل العنف بينهم ومنعهم من تصديره لبقية المجتمع. وأحيانا يأتي الإصلاح متأخرا وتفشل المصالحة فيقع المحظور. يتحول التفاوض آنذاك إلى البحث في شروط الصلح لأن الكل يدرك أنه لا وجود لحرب أزلية ولا بدّ لوقف نزيف الدم والثروة من العودة للسياسة عاجلا أو آجلا.
يتطلب هذا رؤية ستراتيجية تعتمد على فهم عميق لما تتطلبه منا المرحلة أي طبيعة الإصلاح والمصالحة والصلح ....هذه المفاهيم النبيلة التي استولى عليها لمرحلة -انتهت بفضل الدكتاتور نفسه- السذج والانتهازيون والذين أرهقهم طول الطريق .
لقد وضع الدكتاتور الجميع أمام خيار واحد : الاستسلام أو المقاومة وداخل خيار المقاومة هناك بالطبع خيار المقاومة المسلحة أو المقاومة السياسية . والرد عليه يجب أن يكون واضحا . كما تمعن في التزييف والفساد والقمع سنمعن في خيارينا الأساسيين المقاومة والمقاومة السلمية . لماذا ؟ لنذكّر أن السياسة في أحطّ مستوياتها هي ركوب كل الأهداف النبيلة للوصول للسلطة واستعمال كل الوسائل القذرة للتواصل فيها. لكنها في أرفعها وضع الوسائل النبيلة في خدمة الأهداف النبيلة لحل مشاكل المجتمع وذلك بأقل قدر ممكن من العنف.
وقد حفظت اللغة العامية في تونس هذا المعنى العميق للكلمة حيث تعني بالمصطلح الكياسة واللطف كما يعني فيها فعل ’’سايس’’ ترفّّق أو تأنّى. ومن ثمة فإن الحرب ليست، حسب التعريف الشهير الذي حفظته الأجيال عن Clausewitz مواصلة السياسة بطرق أخرى. إنّها فشلها المؤقت. فالقاعدة التي عرفها التاريخ أنه محكوم على المجتمعات أن تدخل الحرب عندما تفشل السياسة وأن تعود إليها عندما تفشل الحرب. وإن كان هناك دليل على أن السياسة هي الحالة الطبيعية والحرب هي الاستثناء، ففي كون هذه الأخيرة طفرة مثل نوبة الصرع والحمى، تنفجر ولا تدوم مهما طالت مشكّلة مجرّد حادث ظرفي في زمن جلّه خال من الحرب.
وحتى تقوم السياسة بمهمتها لا أداة لها خارج التفاوض المتواصل بين مكوّنات مجتمع لها رؤى ومصالح مختلفة وأحيانا على طرفي النقيض. أما أهمّ ركن في هذا التفاوض فهو الإصلاح بما هو تدارك التناقضات قبل أن تصل خطَ اللا رجعة. يعرف كل من خبر أحوال وأوحال السياسة أن القاعدة الطبيعية هي كثرة الصراعات الشخصية والحزبية التي يمكن أن تنتقل من معارك سلمية لمعارك قاتلة، ومن ثمة ضرورة الركون للمصالحة الدورية بين الفاعلين السياسيين لنزع فتيل العنف بينهم ومنعهم من تصديره لبقية المجتمع. وأحيانا يأتي الإصلاح متأخرا وتفشل المصالحة فيقع المحظور. يتحول التفاوض آنذاك إلى البحث في شروط الصلح لأن الكل يدرك أنه لا وجود لحرب أزلية ولا بدّ لوقف نزيف الدم والثروة من العودة للسياسة عاجلا أو آجلا.
لكل هذه الأسباب لا يمكن لأي سياسي جدير بالاضطلاع بأنبل وأصعب مهمة في المجتمع أن يرفض الإصلاح والصلح والمصالحة و إلا كان مثل الطبيب الذي ينوي الشرّ بمرضاه. هذا بالضبط ما يفعله الدكتاتور الذي تدل كل أفعاله على أنه لم يكن يوما جديرا بالمنصب الذي وصل إليه بالأساليب التي نعرف والتي سيفضح التاريخ يوما بقيتها .
وحيث أن هذه المصطلحات الثلاثة هي اليوم على كل الألسن،في ظل استشراس النظام الاستبدادي ، فلا بدّ من التعامل معها بكل الجدية المطلوبة. فمن جهة يجب اعتبارها تعبيرا عن مرحلة من مراحل التطور السياسي لوطننا العربي اشتدت فيها الحاجة إلى كل ما هو مشتق من صلح. ومن جهة أخرى لا مجال لنسيان أننا لدغنا ألف مرّة من نفس الجحر، أن جل معاناتنا اليوم هي نتيجة التلاعب بشعارات تعلقنا بها مثل الاشتراكية والتقدّم والوطنية والقومية.. اتضح أنها قلاع فارغة لا تحتوي إلا على جبال من القمامة. السؤال كيف يجب أن نفهم مطالب الساعة وندافع عن مضامينها في إطار تمسكنا بخيار يسخر منه أصحاب خيار اللجوء للعنف وذلك دفعا لويلات حرب أهلية كلفت الجزائر الغالي وتكلف العراق النفيس مهددة بالانفجار كل مكان يغيب فيه الإصلاح والمصالحة والصلح ؟
*
لنبدأ بالإصلاح بما هو اليوم الشعار المرفوع بأكثر قوة وإلحاح. لا جدال في كون المطلوب ليس تغيير شخص أو حكومة أو حتى سياسة وإنما إصلاح النظام السياسي العربي برمّته حيث لم يعد يختلف اثنان في فساده ولا شرعيته وفشله. والقاعدة أن على حجم الإصلاح أن يكون بحجم العطب والخراب الذي يعاني منه وضعنا السياسي أي ما نحن عليه من تخلف وفرقة وخروج عن نسق التاريخ. السؤال أين يقع الخلل وما المطلوب لعلاجه لكي يستأهل تدخلنا وصفه بالإصلاح ؟
إن النظام السياسي منظومة متكاملة من الأفكار والقيم والمؤسسات والممارسات التي تتدخّل بصفة مباشرة أو غير مباشرة في تسيير الشأن العام. ولو تأملنا في منظومة النظام السياسي العربي والتونسي على وجه الخصوص ، لاكتشفنا أنه مهيكل مثل ثمرة الخوخ. ثمة القشرة السطحية حيث تسود قيم مزيّفة تدّعي السهر عليها السلطة المفتعلة أي قضاء مدجّن يفتعل الاستقلالية وصحافة رسمية تفتعل النزاهة والموضوعية وبرلمان منصّب يفتعل تمثيل الشعب وحزب حكومي يفتعل تحديد الخيارات السياسية الكبرى للحكومة ووزارات متواضعة الفعالية تفتعل السهر على مصالح الشعب الخ ... وكل هذه المؤسسات بطبيعة الحال مجرّد غطاء على السلطة الفاعلة وأداة تنفيذ طيعة بيدها.
هذه السلطة الفاعلة -أي لب الخوخة في مثالنا -هي أجهزة المخابرات التي تسيرها "قيم" التوحش وتميّزها ممارسات تجعلها خارج وفوق كل قانون حيث أعطيت كل الصلاحيات لمراقبة السلطات المفتعلة وإرهاب المجتمع لإخضاع الجميع للحكم المطلق. لا غرابة أن يكون الوزير الأول الحقيقي في كل أوطاننا هو وزير الداخلية في حين أن من تطلق عليه هذه الصفة هو في الواقع الوزير الأخير حيث لا يملك أدنى صلاحية محدّدة في أي ميدان. أما السلطة الفعلية التي تأتمر بأمرها السلطة الفاعلة والسلطة المفتعلة، أي نواة الثمرة، فهي إرادة شخص عادي -وأحيانا أقلّ من عادي- يعاني من هوس العظمة والتأله، يعتبر الحكم غنيمة حرب حقّت له ولذريّته أبد الدهر، والوطن ضيعة له والمواطنين رعايا وهو الحق وهو القيم وهو القانون.
إنه من السهل فهم ديناميكية الأزمة الهيكلية لمثل هذا النظام المريض الممرض. فالحكم المؤبد لا يكون إلا بتزييف كل مفاهيم وآليات الحكم المعاصر لإضفاء غطاء هش من الشرعية تجعل من الانتخابات مثلا الشكل الجديد للبيعة القديمة. هو يتطلّب الاتكال على الفساد لكسب الأنصار وتوسيع رقعتهم. هو لا يتواصل إلا باللجوء للعنف الأعمى لإرهاب كل من لا يقبلون بهذا الوضع الشاذّ. ومن ثمة استشراء الفساد في كل أجزاء الدولة وتعطّل دواليبها وضعف أدائها، ومن ثمة إطلاق يدي المخابرات في أرواح وأعراض الناس، ومن ثمة القضاء المدجن ....الخ .
إن تغيير هذه الظواهر - التي ولدت الظواهري وأمثاله- بمعزل عن السبب الذي أنتجها بمثابة سكب الماء البارد على مصاب بالحمى بدل التعرض للسلّ الذي ينخر في رئتيه. فإصلاح خلل بهذه الخطورة يمرّ إجباريا بالتوجّه إلى سبب العلة أي الانتقال من حكم الفرد والحاشية إلى حكم القانون والشعب أي انتقال الملكيات إلى ملكيات دستورية والجملكيات إلى جمهوريات تكرّس سيادة الشعب بانتخابات حرة ونزيهة وحدها مصدر الشرعية. آنذاك يمكن للإصلاح أن يطال السلطة الفاعلة، أن يضع أجهزة الاستعلامات، الضرورية لكل بلد، تحت إشراف البرلمان وأن يخرجها من دائرة اللا قانون التي تعيش فيه. وبهذا يمكن لهذه الأجهزة أن تعود لوظيفتها الطبيعية أي حماية الشعب من عصابات النهب بالجملة لا حماية هذه العصابات من الشعب. معنى هذا أن أي مشروع إصلاح لا ينطلق من ضرورة رحيل الدكتاتور وعصابته ووضع حد لنظام الحزب الواحد الملفق بتعددية تافهة ، هو إمعان في تخريب البلاد وتخريب الدولة .
فبإصلاح اللب وحده تصلح آليا مؤسسات القشرة فيصبح الإعلام والبرلمان والقضاء وباقي مؤسسات الدولة والمجتمع السلطة الفعلية لا السلطة المفتعلة ....نواة النظام الجديد لا غلافه.
أما الإصلاح "القشري" الذي يتحاشى المسّ بحق الرئاسة مدى الحياة وحق التوريث والسلطة غير المحدودة لأجهزة المخابرات فهو بمثابة صبغ سيارة والحال أن محرّكها يحترق. تنبع ضرورة الوقوف بحزم أمام هذا النوع من "الإصلاح" لا من "التشدّد" و"التسرع " و"اللاواقعية " الخ وإنما من أبسط قواعد المنطق التي تأمر بأن يوصف الدواء الصحيح بأسرع وقت ممكن وليس المسكنات في مرض ينذر إن طال بقتل المريض.
*
السؤال الآن كيف يمكن فرض مثل هذا الإصلاح "النواتي" في ظرف موازين قوى، أصبحت لحسن الحظّ تميل يوما بعد يوم لصالح قوى التغيير الحقيقي. إنها تمرّ بالمصالحة لكن مع من ؟ فالمصالحة مثل الزواج لا تكون إلا برضى طرفين. أي متسلّط عربي جاهر برغبته في محاورة خصومه السياسيين حتى أكثرهم "اعتدالا"؟ لا أحد حسب علمي وذلك لانعدام التقاليد والإرادة والحنكة والذهنية والقدرة النفسية على التعامل الحضاري مع المعارضين. عودوا للخطاب الركيك الذي ألقاه الدكتاتور هذه السنة بمناسبة ما يسمى عيد الجمهورية ( وهو خطاب كل السنوات الماضية وكل التي سيتواصل فيها في التحكم ويمكنكم من الآن صياغته بنفس الوعود الفارغة والأكاذيب المضحكة والتهديدات والتشدق بالقانون الخ )
السؤال الثاني- لو فرضنا وجود النية عند الطرف الثاني - المصالحة حول ماذا ؟ فإذا كانت العملية مقايضة بقاء النظام القديم كما هو مقابل بعض التنازلات الشكلية للمعارضة، أو حتى تنفيس بعض الاحتقان بإطلاق سراح بعض المساجين السياسيين، فإن الأمر ليس إلاّ خيانة موصوفة للمصلحة العامة حيث سيبادل النزر القليل من الفعل والقدير الكبير من الوعود بتواصل الداء الذي ينخر في جسم الشعب والأمّة وإرجاء تفجّر الأزمة ودخول الحرب لحلّها. إن على المصالحة أن تتمّ في إطار، وفي خدمة، الهدف الستراتيجي أي الإصلاح الفعلي والفعّال للنظام، لا بمعزل عنه أو في تناقض معه. في هذه الحالة كيف تكون ؟ إنه من المحزن أن نرى أنظمة اختفت في جلّ بقاع الأرض، ومطلوبة الرأس داخليا وخارجيا، تتواصل عندنا رغم افتقادها لأبسط عناصر الشرعية والقوة، أساسا لغياب بديل واضح يمكن أن يتجمّع حوله الشعب لفرض التغيير الحتمي. فلم يعرف عن أي مجتمع أنه تحرّك للإطاحة بنظام مهما كان فساده دون وضوح البديل المتشكّل من قيادة ومشروع وآليات عمل. إن هذه الشروط لن تتوفر طالما لم تخطو ثلاثة أنواع من المصالحة خطوات هامة إلى الأمام.
الأولى هي المصالحة داخل الطبقة السياسية المجزّأة إلى أحزاب ومنظمات وشخصيات تحاول إلغاء بعضها البعض و تجري تارة وراء سراب المصالحة مع الدكتاتور وتارة أخرى وراء سراب قدرة فعل أي شيء له قيمة في مساحة المليمتر مربع من الحرية المراقبة التي يسمح بها الدكتاتور . أضف إلى هذا سخافة التنافس في ظل التهديد المسلط على الشعب وقواه الحية . إن التنافس منطقي وخلاّق في المنظومة الديمقراطية لكنه مدمّر في ظل دكتاتورية عدوّة الجميع ويفرض المنطق البسيط تجميع كل القوى ضدّها لا لشيء إلا لتوفير الظروف الدنيا التي ستعطي يوما للتنافس معناه وحظوظه. وقد لقّنتنا إفريقيا في نهاية الثمانيات درسا بليغا في كيفية تجاوز تنافس سابق لأوانه لبناء تحالف تفرضه المصلحة المشتركة وذلك عبر الالتقاء داخل المؤتمرات الوطنية الديمقراطية الجامعة لكل المعارضين المصممين على قبر الدكتاتورية. إن الوضع اليوم خاصة في مصر أو سوريا أو تونس ناضج لانعقاد مثل هذه المؤتمرات كبرلمانات مؤقتة لشعوب بلا برلمانات. أما مهمة هذه المؤسسات فليست صياغة برنامج حكم، لأن الأمر مستحيل، وإنما صياغة مسودة دستور النظام المقبل أي إبرام عقد تاريخي حول الضمانات المتبادلة لعدم تجدد الكارثة. وفي مرحلة ثانية يمكن للمؤتمرات الوطنية الديمقراطية تعيين قيادة جماعية مؤقتة مهمتها التخطيط للانتفاضات الشعبية السلمية وقيادة المرحلة الانتقالية إلى يوم هيكلة النظام السياسي الجديد عبر تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية فعلية.
إلاّ أنّ عملية مثل هذه تستوجب ضرورة مصالحة تاريخية بين المشروعين المتنافسين لوراثة النظام القديم أي بين الإسلام السياسي المعتدل والرافض بكل وضوح للعنف والديمقراطية. أما صيغتها فوفاق بين الديمقراطيين المعتدلين والإسلاميين المعتدلين يكون مبنيّا على مبدأين أساسيين: أنه لا مستقبل لأي نظام سياسي عربي يتنكر للهوية والاستقلال- مما يعني أنه لا مجال لقبول أي تدخّل أجنبي في عملية الإصلاح - كما لا أمل في أي نظام سياسي لا يرتكز على حقوق الإنسان بما فيها الديمقراطية، لأن الاستبداد كان وسيبقى - بغض النظر عن العقيدة التي يتغطى بها ولو كانت الإسلام - هو وحده المسئول الأكبر عن فشلنا التاريخي أفرادا وشعوبا وأمّة . يعني هذا القطع من جهة مع لائيكية متشددة غريبة عن المكان ومن جهة أخرى القطع مع سلفية متشدّدة غريبة عن الزمان.
أخيرا لا آخرا، لا بدّ من مصالحة بين المجتمع المدني والمجتمع ككلّ. فالأول غالبا ما يكون مشغولا إما بالعقيدة إذا كان إسلامي التوجّه أو بالحريات إذا كانت الديمقراطية هاجسه. لكن الناس مثقّلون بهموم الحياة العادية ولا بدّ للمؤتمرات الوطنية الديمقراطية إذا أرادت تجنيد الناس في الانتفاضات الشعبية السلمية من جعل الحقوق الاقتصادية والعدالة الاجتماعية نقطة الثقل في مشروعها لبديل مندمج متكامل يجمع بين الهوية العربية الإسلامية والحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
*
نأتي لآخر نقطة أي الصلح والدرس مجدّدا من إفريقيا وعلى وجه التحديد من إفريقيا الجنوبية. لقد استطاع هذا البلد الانتقال من عهد الميز العنصري إلى عهد الديمقراطية دون المرور بمرحلة حمام الدم لأن كل الفرقاء مارسوا السياسة في أعلى مستوياتها وتوصلوا عبر التفاوض المستمرّ لصيغة وفاقية هي الانتقال السلمي مقابل طي صفحة الماضي، أي مقابل تعليق المحاسبة والتتبع للمسئولين والجلادين، إلا في المستوى الرمزي الذي جسمته جلسات لجنة المصالحة والحقيقية-
ونحن العرب عموما والتونسيين خصوصا اليوم أمام نفس مفترق الطرق الذي عرفته جنوب أفريقيا في بداية التسعينات. فمن جهة هناك إرادة تغيير حبلى بالعنف الناجم عن طول القهر والإذلال. ومن جهة أخرى هناك أنظمة ميز سياسي واحتلال داخلي، محاصرة ومرعوبة ومستعدّة لكل الموبقات للبقاء في الحكم بما هو ضمانها الوحيد للإفلات من محاسبة عسيرة كالتي يستعدّ لها صدام حسين.
إنه وضع لا نحسد عليه حكاما ومعارضين حيث السلطة مطوقة من الجهات الأربع بالمجتمع الناقم والمجتمع الناقم مطوّق من الجهات الأربع بالنظام الخائف ولا وجود لمنفذ لا لنا ولا لهم. إن أي حلّ سياسي مبنيّ بالضرورة على تنازلات متبادلة ونموذجه كما قلت خيار مانديلا العظيم : الصلح مع العدوّ الشرس البغيض على قاعدة العفو وعدم المحاسبة مقابل الانتقال السلمي للنظام الجديد.
صحيح أن هذا الحلّ منافي للعدالة بما هي انتقام، لكنه ليس منافي للعدالة بما هي تعويض مادي ومعنوي لكل الضحايا. ويبقى على كل حال أن توفير حياة كم من آلاف من البشر أثمن من كل عدالة الأرض. إلا أن المشكلة هي في قابلية مثل هذا الصلح للتحقّق في عالمنا العربي المعقّد. كم من فوارق داخل الملكيات وبينها وبين جملكيات هي المرشحة الأولى للانهيار. كذلك لا زالت جلّ الأنظمة تتصرّف وفق مقولة Hanna Arendt الشهيرة " كل شيء على ما يرام في الدكتاتورية حتى الربع ساعة الأخيرة".
هل معنى هذا أن علينا الاستعداد لسنوات رهيبة من تفاقم الأزمة السياسية والانتفاضات والقمع إلى أن يقتل الطغاة في قصورهم أو يساقون إلى المشانق بعد محاكمات صورية كما سيقع غالب الظن مع بطل أم الهزائم ؟ إن هذا هو خيار الحرب ورهانها لكن خيار السياسة منع مثل هذا السيناريو، لا لشيء إلا لأنه سيعيد عقرب الساعة إلى الصفر الذي انطلقنا منه ونعود إليه كل مرّة. إن الأمر المستعجل اليوم هو بلورة إستراتيجية سياسية واضحة تنافس إغراء إستراتجية الحرب ويمكن أن تشكّل أفقا مقبولا لشعوبنا. هذه الإستراتيجية السياسية هي بالضرورة رفض المساومة في مبدأ رحيل الاستبداد ورفض المساومة في أي إمكانية لتجدده، مع فتح منفذ أمام المحاصرين إذا لم يلجئوا لتقتيل الناس من فرط خوفهم على حياتهم. أما الضامن لهذه الستراتيجيا فبالضرورة المؤتمرات الوطنية الديمقراطية، وهذه واحدة من أهمّ مهامها، لأن النظام المحاصر لا يمكن أن يثق بطيف من الأشخاص والأحزاب المتناحرة على مبتدأ الخبر ومنتهاه. ويوم يوجد هذا الهيكل عبر نجاح المصالحات المتعددة المستويات ويوم يتبنى خيار أقصى الحزم بخصوص الهدف وأقصى المرونة بخصوص الوسائل، فإن الشعب سيخرج للشارع لتحقيق الاستقلال الثاني كما خرج لتحقيق الاستقلال الأوّل.
لا شك أيضا بأن البشر، يمكن أن يبدعوا أشكال أخرى غير تقليدية، في حين يجعل الركون إلى أساليب مترددة وبالية من الإصلاح ترميما والمصالحة استسلاما والصلح مجرّد فترة وقف إطلاق النار، في حرب متواصلة تغذيها أوهام وأخطاء رجال ونساء لم يرتقوا بحلولهم لمستوى المشاكل. في هذه الحالة فإن خيار الحرب الذي يمثله بن لادن وينظّر له الظواهري هو الذي سيغلب في كل مكان وحتى في تونس . علما بأن نتيجته ستكون كارثة على الشعب والأمة هزم أو انتصر. فإن هزم، أي تم الأخذ بالسيناريو الجزائري، فإنه سيكون سبب إطالة عمر الاستبداد الحالي نتيجة دعم الخارج وجزء من الداخل لنظام يدعي أنه الدرع ضد "الإرهاب". وإن انتصر فسنعيش انتصاب نظام الحاكمية للشريعة أي الحاكمية للذين فرضوا بالسلاح التغيير الذي عجز عن تحقيقه الخيار السياسي وللذين اكتسبوا بالقوة حق تأويل وتفويض الشريعة لصالحهم. معنى هذا أننا سندشّن فصلا جددا من فصول الاستبداد باسم الدين، وستذوق منه الأمة الأمرّين بعد أن جربت كل الهول الممكن مع الاستبداد باسم الشعب أو باسم الأمّة.
إن حل الحرب الذي يدعو له بن لادن والظواهري لن يؤدّي إلا لتواصل اللعنة التاريخية التي تصاحبنا منذ الفتنة الكبرى: التأرجح من الفوضى إلى الاستبداد ومن الاستبداد إلى الفوضى، علما بأنه لا شيء يولّد الاستبداد قدر الفوضى ولاشيء يولّد الفوضى قدر الاستبداد. ولأن قدرنا ليس الخيار بين فوضى وفوضى، بين استبداد وآخر، فإنه من واجب كل شخص مسئول في هذا الشعب وهذه الأمّة أن يجنّد ويتجنّد للانتفاضة الشعبية الديمقراطية السلمية قبل أن يؤدي خوف الجلاد وضغينة الضحية إلى خراب بصرة خربت ألف مرّة لنفس الأسباب .
Moncef Marzouki 28-07-2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق