08‏/11‏/2008

نساء الانتماء بقلم: التونسي متاع تونيزين(*)


نساء الأنتماء
سموهم ما شئتم وكيف ما اتفق فهذا ليس بالمهمّ. سجناء سياسيون، سجناء رأي، سجناء مظهر، إرهابيون، انتماء... ولكنهم لا يعدون أن يكونوا ضحايا لنظرية المؤامرة، مؤامرة محبوكة الخيوط مترامية الأطراف سببها حوادث متفرقة من العنف السياسي ما كان لها أن تتجاوز صفحات "صدى المحاكم" لولا رغبة مبيتة لدى النظام وقتها للتخلص من خصوم سياسيين غير عاديين بالمرة اقتربوا بصفة دعتهم للذعر والهلع من سدة حكمهم. ليست المرة الأولى التي تعرف فيها تونس العنف السياسي أو ما يصطلح على تسميته الآن بالإرهاب. ففي فترة الاستقلال عرفت البلاد موجة منه حتى بين أفراد الحزب الدستوري ولكن الحملة التي شنها النظام على الإسلاميين في أوائل التسعينات لم تكن عادية بالمرة وسخرت فيها كل أجهزة الدولة والحزب الحاكم وحتى عامة المواطنين للقضاء على الغول الإسلامي الذي تغلغل في كل مؤسسات الدولة وبات يهدد بنسف أركان الجمهورية- كانت حملة رهيبة داست فيها التعليمات القوانين وتواطأ فيها الكثير. كان على الجميع و بدون استثناء أن يتخلص من الكابوس الجاثم على الأنفس والمتمثل في دحض أي علاقة من بعيد أو من قريب بالإسلاميين وإن لزم الأمر بالإسلام فالعواقب وخيمة جدا وحبل المشنقة يتدلى أمام كل الأعين.
قلة قليلة نذرت نفسها للتنبيه من أن هذه الحملة ستنسف كل شيء أمامها. حتى أعداء الإسلاميين وكل مكونات المجتمع المدني دفعوا الثمن ودخلت البلاد في أحلك فترات الحكم الفردي الاستبدادي. البعض يزعم أن الحملة لم تتوقف إلى الآن رغم مرور أكثر من عقد من الزمن فالهاجس الأمني ظل كما كان سيفا مسلطا على كل الرقاب منذ أن زج بالآلاف في السجون والمعتقلات وهاجر من هاجر قسرا أما البقية الباقية فإنها سكتت حتى عن الكلام المباح وآثرت الاستقالة الجماعية عن الوقوف في وجه التيار الجارف. الأسطر التي أخط ليست بكاء على الأطلال فأنا لم أعرف من الديموقراطية غير ما زودوني به من حكايات عمالنا بالخارج والسياح الأجانب، ولا هو جلد للذات فأنا لحد علمي لست متورطا بصفة مباشرة في الركود الفكري والتصحر الثقافي الذي تعيشه البلاد منذ أمد ولكنه قد يكون إحساسا بالمرارة تحركه عقدة ذنب لم أفلح في التخلص منها وامتطاء لقطار العفو التشريعي العام وهو يسير، فنسبة غير هينة من الانتماء لا تزال تقبع في السجون في ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها قاسية دون الخوض في تفاصيل يعلمها ألقاصي والداني. لا أعرف أي حشرة لدغتني لأكتب ما سبق بعد أن أعدت قراءته، أعترف، وهنا أشير إلى أني أعترف بسهولة والبوليس السياسي يعرف ذلك جيدا فلا شيء في هذا الكون يمكنه إجباري على الكذب والخديعة حتى مبادئي وحتى التعذيب الذي تعرضت له كان مجانيا ولم يجنوا من ورائه شيئا لأني كنت قد قلت كل ما أعرف. إذن لا فائدة من اللغة الخشبية ولا شيء الآن في هذا البلد يستحق أن نكتب من أجله مقالا أو خواطر توحي بالجدية استجداء لعواطف القارئ. كل شيء مدعاة للسخرية، كل شيء مدعاة للازدراء، كل شيء مدعاة للضحك حتى العفو التشريعي العام. صدقوني أصبحت أخشى أن يصنفني أحدكم ضمن الإسلاميين فأنا لست إسلاميا ولا أهاب أمن الدولة هنا بل الأشخاص الذين تهمهم قراءة ما أكتب. فالعفو من شيم الكرام والحرية ما هي بحرية إن قبلت الاستثناء. فالتصنيف ضرب من ضروب التمييز فما الفائدة في أن تكون شيوعيا أو قوميا أو إسلاميا في بلد لو عاش فيه بلال بن رباح لقال "أحد أحد" بدون أن يتعرض للتعذيب. عندما نتخلص من سياسة "أحد أحد" و ثقافة ورأي "أحد أحد" وصحافة وإعلام "أحد أحد" وهلمّ جرا وقتها فقط قد أعتنق مذهبا وأجاهر بما أبطن. للمرة الثانية أجد نفسي أعيد قراءة ما أكتب لأكتشف أنني عاجز عن البقاء في فكرة واحدة ونصي يعاني من نقلات تعسفية متكررة وبلال بن رباح يلقي بظله على ذهني. كم نحن بحاجة لأشخاص مثله يدعونا للقيام بدل النوم، ما الذي دفعه للصعود إلى سطح المسجد في عز الظهيرة تحت لفح الشمس الحارقة وغيره احتمى بالظل؟ لماذا آثر الموت على العبودية والشرك؟ هل كان يدرك أن كلماته وإن كانت شحيحة دخلت التاريخ. لا شك أنه انتماء هو أيضا... انتماء، كم تؤرقني هذه الكلمة. عند دخولي السجن رمقني أحد الأعوان بنظرة حادة وقال لزميله: "انتماء".
كنت أظن نفسي سجينا وهالني أن أصنف ضمن خانة الانتماء، لا رغبة لي في سياسة الانتقاء هذه بكل ما تعنيه من مساوئ ومكاسب تعب الكثيرون وفيهم من مات في سبيل تحقيقها. انتماء لماذا؟ انتماء لمن؟ ربما لـ "جمعية غير مرخص فيها" ولكن لحد علمي الفريق الوطني لكرة القدم وهو فريقي المفضل "جمعية خيرية هدفها غير ربحي" توزع المال على المحتاجين وتنهزم في جل مبارياتها وقد تربح أحيانا دون أن تسحب منها الرخصة. ربما "لعصابة مفسدين" لو وافقت على هذا التصنيف سيكون اعترافا بأن أصدقاء الأنترنت مفسدين وما هم كذلك. كان علي أن أرضخ للواقع فأنا انتماء أحببت أم كرهت وقد هان علي الأمر بعد أن أقنعت نفسي بأنه "انتماء لتونس". الانتماء للانتماء هو أن تتغافل بدراية عن القانون المنظم للحياة السجنية – عدد51 لسنة 2001 – وأن ترضخ للتعليمات والتراتيب الداخلية الآتية من فوق ومن كل صوب وحدب، وإن تناقضت مع القانون بعضها في صالحك وغالبيتها الساحقة ضدك. محاولة إقناع الإدارة السجنية بضرورة الكف عن الإجراءات الردعية لا تجدي نفعا. التذكير بأن سلب الحرية هو أشد عقاب يمكن أن يتعرض له إنسان عاقل وراشد لا فائدة ترجى منه. سياسة المن والعطاء وتضييق الخناق على السجين لا طائل من ورائها بعد أن فقد الإنسان أعز ما يملك: حريته. كثير جدا هم الانتماء الذين لم يعودوا قادرين حتى على رفع الإصبع للتنديد بممارسة تعسفية. الأمراض والانتهاكات والتجاوزات والظروف القاسية أخذت منهم مأخذا ولولا بعض من عناد وأنفة ما كان لنا أن نسمع بسجين مضرب عن الطعام أو حتى بلفت نظر من أناس لفهم النسيان سنين وسنين... حتى الرسائل المكتوبة للأهل والأحباب قوارير ترمى في البحر وقل وندر وصولها للعنوان المنشود. اللعنة! أنا أكتب منذ وقت غير قصير دون أن أبلغ مرامي. لعله الحرمان من الورق والقلم طوال سجني السبب في هذا اللغو المتواصل الذي لا طائل منه. حتى القليل الذي تمكنت من خطه حجز مني بدون موجب حق ولو أن أكثره كلام موجه للعائلة فيه الكثير من طلب الغفران والمعذرة على المتاعب التي يكابدونها. عائلات الانتماء هم أيضا انتماء وإن كانوا خارج السجن. هم بالآلاف وعقدة الذنب تحركهم بوعي أو بدونه. هم أيضا يدفعون الثمن باهظا ويسألون عن ساعة الخلاص ولا من مجيب. كم من أم تعاني في صمت وهي تتذكر الحديث النبوي "يولد الإنسان على الفطرة..." هل كان عليها أن تمنع ابنها من دخول المسجد وتشجعه على ارتياد المقاهي أو التسكع؟ كم من زوجة تتساءل عن سبب اختيارها لزوج ذو خلق بعد أن صدت في وجهها جميع الأبواب وما مد لها أحد يد المساعدة. هل تطلق زوجها و تنسى؟ كم من أخت؟ كم من جدة؟ كم من عمة؟ كم من خالة؟ كم من قريبة؟ كم من جارة وجدت نفسها في خطوط المواجهة والرسول أوصاها خيرا بجيرانها؟ لقد أثبتت المرأة بطريقة تدحض كل شك وتزيل كل غشاوة عن الأبصار بأن من لا يزال يعاند ويصر على معاداة حرية المرأة ومساواتها بالرجل إنما هو جاهل وأحمق وناكر معروف وطوبى لمن كانت إلى جانبه وقت الشدائد على الأقل امرأة واحدة متعلمة وواعية شكلت ولا تزال سنده الوحيد ومصدر فخره واعتزازه بنفسه.
آن الأوان لسحب البساط من تحت قدمي النظام الذي شكلت إنجازات ونضالات بنات شعبنا ورقة رابحة يواجه بها ألد خصومه وأعدائه في الداخل والخارج. لقد انخرط في لعبة قذرة قوامها المن والعطاء المشروط والترهيب من كل مشروع مجتمعي آخر. النساء في تونس أثبتن أنهن في غنى عن وصي من هذا الجانب أو ذاك. وإن كان لابد من تعلم دروس من السجن وتجاربه المريرة فهي أن النساء " قوامات على الرجال" متى شئن. أكرر طلبي بالإسراع بسن عفو تشريعي عام وإن كنت لا أهتم كثيرا بتنقية المناخ السياسي وانفراجه فالسياسة ستظل كما هي لاتحتمل النقاء أصلا ولكن رأفة بحال نسوة يتألمن في صمت بعيدا عن الأضواء.
التونسي متع تونزين ...
2003
زهير اليحيـــــــــــاوي

ليست هناك تعليقات: