03‏/10‏/2008

قراءة الدكتور المرزوقي لواقعنا الاقتصادي الاقتصاد التونسي بين جهلنا وأكاذيبهم


الخميس 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.

الإشكاليةمن يعرف منّا ما هي تأثيرات الأزمة المصرفية التي تعصف بالعالم هذه الأيام على بنوك بهشاشة البنوك التونسية ؟ من يضمن أننا لا نفيق يوما على انهيار نظامنا البنكي بكل تبعاته ؟يحيلنا السؤال إلى آخر أوسع : ما هي الحالة الحقيقية للاقتصاد الوطني؟ثمة ما يعرفه الجميع : أننا بلد بدون موارد كثيرة لكن متنوعة، مما يحمينا من التقلبات العنيفة للبلدان التي لا تعيش إلا على مورد واحد . هذه الموارد هي أساسا السياحة وأموال المهاجرين ، وبعض النفط وشيء من الصناعات الصغرى وقليل من الفلاحة ...كل هذا لتدبير وسائل عيش مجموعة بشرية نجحت بفضل سياسة تحديد النسل في تخفيض الضغط على الموارد القليلة ، وتتمتع بمستوى تعليمي مقبول ومتعودة على العمل الخ ...ثمة المؤشرات التي نستشعرها كلنا والدالة على وجود أزمة : تفاقم الغلاء ، انهيار القدرة الشرائية للطبقة الوسطى، انتشار البطالة بين الشبان والشابات ، خاصة الحاصلين على الشهادات الجامعية، الرغبة العارمة في الهجرة، تكاثر الإضرابات والطرد في مؤسسات تعاني من صعوبات مزمنة ، انتشار الفساد ، تصاعد مظاهر الثروة الفاحشة والفقر المدقع، أخيرا ولا آخرا انتفاضة الحوض المنجمي مدة أشهر وقمعها بالحديد والنار.ثمة ما تردّده أبواق السلطة و"تزلّقه " في الصحافة المأجورة داخل الوطن وخارجه. مثلا ما نقرأ في عدد 17 ديسمبر 2006 لمجلة " جون أفريك" أن الحكومة كفت عن الاقتراض في السوق الخارجية بل وأخذت تدفع مسبقا جزءا من ديونها" من يجرؤ بعد هذا عن الإيحاء بأن الدين الخارجي وصل لدرجة القشة التي ستقصم ظهر البعير.ثمة ما يدعيه رجال السلطة أنفسهم. مثلا . في إطار الجامعة الصيفية الأخيرة لمنظمة الأعراف الفرنسيين بمدرسة البوليتكنيك، قدم السيد محمد الغنوشي الذي يشغل المنصب الشرفي للوزير الأول قائمة بالإنجازات الحالية من تحديث القطاع البنكي والمصرفي وتحسين التعليم والتشغيل وبعث مشاريع كبرى منها ثلاثة مولدات كهربائية عملاقة ومصنع لتحلية ماء البحر وبناء 200 كلم من الطرق السيارة ، ومجمع سياحي على 2700 هكتار في تونس تكلفته 30 مليار أورو تموله الاستثمارات الخارجية. ألا يدلّ كل هذا على أننا في بحبوحة من الاقتصاد ؟المشكلة أننا نعرف " صحة رقعة" نظام تدينه كل منظمات حقوق الإنسان المحلية والعربية والدولية ومع هذا يتشدق بهذه الحقوق ، بل تذهب به الوقاحة لحدّ الاحتفال باليوم العالمي وتوزيع وتلقي الجوائز. موسميا نضحك من النسب التي يتحصل عليها الدكتاتور في " انتخاباته " الرئاسية والتي يوزعها على "التياسة" الذين يكلفهم بلعب دور المرشحين المعارضين. كلنا نعرف أن هذه الأرقام التي يتحفنا بها وزير القمع والتعذيب عشية إعلان النتائج كاذبة ، أن الرجل يعرف أنه يكذب وأننا نعرف أنه يكذب. وتنتظرون من نظام كهذه أن يصدقنا في موضوع بحساسية الشأن الاقتصادي والمصرفي ؟هنا يواجهونك بشهادات الاستحسان الكثيرة للهيئات الدولية مثل البنك العالمي أو صندوق النقد الدولي. مثلا، بعد زيارة تفقدية في أواخر شهر ماي وبداية جوان 2008، دبج فريق الخبراء برئاسة السيد عبد الحق صنهاجي تقريرا نقرأ فيه : " إن الإدارة السليمة للاقتصاد والسياسة الاجتماعية تواصلان إعطاء الثمار ، خاصة من خلال تسارع النموّ وتحسّن المؤشرات الاجتماعيدة والحفاظ على التوازنات الاقتصادية الكبرى"ويضيف التقرير " لقد حققت تونس حصيلة جيدة من الناحية الاقتصادية سنة 2007 حيث ارتفع الناتج القومي الخام ب 6.3 في المائة مما مكن من تنقيص البطالة ، وبفضل السياسة الحذرة للبنك المركزي التونسي ، أمكن تخفيض غلاء الأسعار ب 3,1 في المائة....أما العجز في الميزانية العامة فقد بقي في حدود ال 3 في المائة سنة 2007 ....إن السياسة الديناميكية للسلطات قد دعّمت النظام البنكي ...من المتوقع أن يستوعب النظام المصرفي كل الضربات الناتجة عن ارتفاع الأسعار ....الخ ...الخ. "نجد نفس الصورة الوردية في تقرير منشور على الانترنت لمجموعة "أكسفورد بزنس سكول" فحسب هذا المصدر" ارتفع الناتج القومي الخام من 5.86 مليار دينار سنة 2007 إلى 6.2 مليار دينار سنة 2008 والاقتصاد يشهد تقدما ب 13 في المائة خاصة في قطاع النقل والاتصالات و13.5 في المائة في مستوى الصناعات الميكانيكية والنسيج . كما ارتفعت المدخرات بالعملة الصعبة إلى 16.5 في المائة " ...الخ .المفارقةهنا يشعر غير المختص أو غير المتابع بلخبطة كبرى . من يصدق ؟ : معارضة " مغرضة" تصطاد في الماء العكر ...، ناس بسطاء يكذّبون خبراء قد الدنيا، فيرمون بأنفسهم في البحر ، أو يهربون بحيواناتهم للجزائر طلبا للجوء الغذائي... أم سلطة كذابة بطبيعتها ؟لنلق بسؤال قد يبدو غريبا : ماذا لو كنا نحن المعارضون الذين- بقلوبهم مرض - نتعامى عن جهل أو سوء نية عن المنجزات العظيمة للنظام وهي خير وأبقى من مبادئنا الساذجة ؟ ماذا لو كانت الاحتجاجات المتعددة ظاهرة صحية لقطاعات تريد نصيبا أكبر من الثروة الجماعية المتنامية ؟ماذا لو كان كلام السلطة والخبراء الدوليين عن المعجزة صحيحا في مجمله حتى ولو شابته بعض المبالغة ؟ليكن. ولننطلق من أن تونس تشهد فعلا تحت الحكم الحالي معجزة اقتصادية ستسير بذكرها الركبان.
في هذه الحالة ثمة سؤالان لا بدّ من طرحهما.الأول موجه لرجال الدولة ولحلفاء النظام في الخارج : هل يبرّر هذا التقدم الاقتصادي المبهر أن يكون لنا قضاء مستغل وصحافة مقموعة وانتخابات مزورة وتعذيب متواصل منذ عقدين ومجتمع مدني مشلول وحياة سياسية متخلفة وتصحّر ثقافي؟هل يعطي هذا النجاح الباهر الحقّ لبن علي في الرئاسة مدى الحياة الفعلية ، ولزوجته الحق في إعداد صهرها ليرثنا بعده، ولابنها الحق في سرقة اليخوت وتشويه سمعتنا ، وعموما للعائلتين الحق في استنزاف خيرات البلاد وفي جعل الفساد أداة للحكم وخاصية من خصائصه ؟الثاني موجه للتونسيين : هل يجوز لشعب التخلى عن حريتة وسيادته لصالح مائة شخص يسخرون من ذكائه بالانتخابات التسعينية ، ويصادرون كل حقوقه الجماعية ، ويسرقونه في وضح النهار ، فلا يحرك ساكنا لأنهم يضمنون له " العلفة" ؟الردّ على السؤالين بالنفي طبعا . فالسلطة في أي بلد ليست مسؤولة عن التقدّم الاقتصادي فحسب وإنما هي مسؤولة عن التقدم بصفة عامة وكما تحدده معايير الأمم المتحدة التي جعلت المفهوم يحتوي على الحريات الفردية والجماعية. أما شعب يحترم نفسه ، فلا يمكن أن يرضى بالتخلي عن كل ما يؤسس لكرامة الأفراد والمحموعة لمجرّد أنه يستطيع أن يستهلك. معنى هذا أنه لا يمكن قبول منطق السلطة في تقديم المنجزات الاقتصادية للتغطية على، أو لتبرير البؤس السياسي والثقافي والنفسي الذي تعيشه تونس تحت حكم بن علي منذ عقدين...هذا لو كان الأمر صحيحا ، فما بالك والأمر أكذوبة كبرى. *" يا مزيّن من برّة آش حالك من الداخل"؟في إطار الإعداد لهذه المقالة ، طلبت من فتحي الجربي أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة تونس والمكلف بالملف الاقتصادي في المؤتمر ، مدّي بورقة يمكنني الاعتماد عليها -هي منشورة الآن على موقعناwww.cprtunisie.netثمة نقطة في الورقة لم تقنعني وهي عندما يقول فتحي أن ما تردده المنظمات الدولية التي تمجّد فيها دوما المنجزات العظيمة مجرّد ترديد للمعطيات التي يقدمها نظام خبير في التزييف والتضليل ، لموظفين يقضّون بضعة أيام في كنف ضيافة سخية وليس لهم الوقت للتأكد من صحة الأرقام.إن قضية إعطاء علامة جيد جدا للاقتصاد التونسي من طرف الهيئات الدولية حسب رأيي أعقد من تفهم خبراء مستعجلين وليس لهم وسائل حقيقية للتثبت من الأرقام التي تقدّم لهم ، وغمروا بحسن الضيافة وربما بأكثر.هؤلاء الناس لا يأتوا إلا للتأكد من اعتماد مقدسات الديانة الليبرالية مثل خصخصة القطاع الاقتصادي وفتح الأسواق وتقشف الدولة - على حساب الصحة والتعليم وليس على حساب البوليس ونفقات الرئاسة- . طبيعي أن ينصرفون مسرورين وأن يغدقوا التهاني وقد وجدوا ما جاؤوا من أجله. أما الثمن الاجتماعي لهذه السياسة وما وراء التوازنات الكبرى فمسألة لا تعنيهم .لكن ثمة فكرة بالغة الأهمية في نص فتحي لا يمكن إلا أن نتفق معها جميعا. هو يلاحظ بكثير من الفطنة وقدر كبير من السخرية، أن الاقتصاد التونسي فعلا معجزة بالمعنى الأصلي للكلمة ، أي أنه مثل المعيز التي تطير ، معطى لا يخضع للقوانين الطبيعية التي تسري على الأغلبية الساحقة للمعيز المكتفية بالمشي بحوافرها على الأرض.نفس الشيء عن اقتصادنا ، الذي يستطيع خلافا لكل اقتصادات العالم أن يتطور من حسن إلى أحسن دون حاجة لأي من الضوابط المعروفة التي تمكن من تطويق سلبيات سياسات خاطئة ، أو تطهير قطاعات غير منتجة، أو الضغط على الفاعلين ليحسنوا أدائهم ، أو الشد والجذب بخصوص التوزيع للثروات مما يمكن من تأخير أو إلغاء الانفجارات الاجتماعية. فالاقتصاد التونسي مثل سيارة تستطيع أن تصل تونس بمدنين في منتهى الأمان والراحة دون حاجة لمقود أو فرامل.لكن ماذا عن الاقتصادات غير المعجزية وكيف تحفظ توازناتها . هناك دوما حسب فتحي ضوابط ثلاثة هي قوانين السوق والحياة الديمقراطية والعامل الخارجي.مهمة الضابط الأول - وهذا في كلّ اقتصاد ليبرالي كالذي تتبعه نظريا السلطة- أن تعمّ المنافسة بين فاعلين اقتصاديين لهم نفس الحقوق والواجبات داخل السوق. هكذا تؤدي المنافسة النزيهة إلى إزاحة المؤسسات العرجاء وتقديم أفضل وأرخص منتوج لمستهلك يتوفّر على المعلومات الكافية لحسن الاختيار . إذا كانت هذه الرؤيا الليبرالية للسوق صعبة التطبيق في البلدان العريقة في هذا النوع من الاقتصاد، فما بالك ببلادنا التي تعرف مسخ سوق تتحكم فيه عصابات ليلي الطرابلسي ومن معها، وتفرض فيه مؤسسات فاشلة مثل كارطاجو لصاحبها بلحسن الطرابلسي على حساب تونس الجوية ، ويتم الاستيلاء على المؤسسات الناجحة بلقمة خبز مثل استيلاء صخر الماطري صهر الدكتاتور على شركة النقل الوطنية...مع وجود جلّ المؤسسات تحت التهديد المتواصل بالتدارك الضريبي في حالة عدم الخضوع للعائلات المالكة . كل هذا بالطبع في إطار التوظيف الدائم لأجهزة الدولة مثل الجمارك والقضاء لحماية المصالح الخاصة ضدّ المصلحة العامة .الضابط الثاني هو الحياة الديمقراطية المتمثل من جهة في الانتخابات الحرة وفي ضغط النقابات. إن التغيير الملحوظ في الملفات الاقتصادية الذي يحصل باستمرار في البلدان المتقدمة مرتبط بتقييم سياسي وليس فقط نتيجة فعل السوق. فالحكام الذين لا يحسنون إدارة الاقتصاد والتوزيع المقبول للخيرات يحالون على المعارضة. نفس الشيء ولو بأقل حدة للعامل النقابي الذي يستطيع أن يلعب دورا في توجيه دفة الاستثمارات وبالتالي يساهم في ضمان التوازنات الاجتماعية الكبرى. أنظر الآن لاقتصادنا. لا نقابة ولا انتخابات ولا من يحزنون . إذن بجانب غياب التقييم بالسوق ، هناك غياب التقييم بالسياسة ، ومع هذا فإن اقتصادنا يستطيع بسوق فاسدة ومجتمع مدني مشلول أن يجد توازناته بنفسه لأن الساهرين عليه من طينة معجزاتية، لذلك أقترح أن نعيرهم لبورصة ولستريت والبنوك الأمريكية المفلسة لينقذوا الاقتصاد الأمريكي المسكين.العامل الثالث للضبط هو التقييم الخارجي . هنا نتوقع من اقتصاد بلا ضوابط أن يثير استياء الممولين الأجانب فيمنعون عنه الموارد إلى أن يحسن أداءه الاقتصادي وبذلك يعود للتعديل المفقود . الذي حدث هو أن المال تواصل تدفقه عبر ثلاثة قنوات رئيسية: التبييض والاستثمارات الخليجية غير المنتجة في بناء النزل والمنتجعات السياحية الضخمة التي سيتضح مردودها في أول أزمة سياسية دولية او داخلية... وخاصة القروض التي لا يبخل بها الغرب حكومات ومؤسسات، لأن النظام عنصر خاضع للارثوذكسية الليبرالية وجندي منضبط في "الحرب ضد الإرهاب ". هكذا تستطيع اعتبارات جيوستراتجية أن تغطي على عجز هيكلي لاقتصادنا ، لكن بثمن باهظ سأـعرض له لاحقا.معنى هذا أن وراء " المعجزة "، اقتصاد لا يضبطه السوق أو حكم الشعب أو التفاوض الاجتماعي أو العقوبة الخارجية في حال الفشل، وكلها عوامل موضوعية لاقتصاد يخفي حقيقة قد لا تسرّ الناظرين.
السؤال بالطبع ما هي هذه الحقيقة والردّ بكل بساطة: لا أحد يعرف ، وربما حتى من يتصورون أنفسهم أصحاب القرار، لسبب بديهي أننا أمام نظام بارع في حجب وقلب الحقائق ، وأن المال هو الميدان الذي يجب أن يحف ّ به اكبر قدر من الإبهام والغموض وأن يحجب وراء ألف ستار ، وأن يدفع الباحث في مشاكله في ألف طريق يقودونه للجري وراء السراب.ليسمح لي هنا لتوضيح دور التزييف في عقلية هذا النظام أن أذكّر بحادثتين عشتهما في التسعينيات . الأولى روتها لي زميلة أستاذة في الأمراض العقلية دعيت للمشاركة في مؤتمر حول استهلاك المخدرات في البلدان المتوسطية. وقبل أن تركب الطائرة طلبت منها وزارة الصحة نسخة من بحثها لتعلمها بمنعها من تقديمه لأن أرقامها كانت " فاسدة" وهي تظهر تصاعد استهلاك المخدرات في بلد السابع ، وهذا لا يجوز.القصة الثانية كنت بطلها . ففي التسعينات كانت وزارة الصحة تشيع أن نسبة وفيات الأطفال في بلدنا عشرين في الألف وهو رقم كان يضعنا في مستوى فرنسا في الستينات . وكأستاذ في الصحة العمومية ، بدا لي الرقم غير معقول ، فوظفت كامل قسم الطب الجماعي بسوسة سنتين كاملتين لدراسة هذا المؤشر البالغ الأهمية ، تحديدا في منطقة القلعة الكبرى . كان بحثا علميا يخضع للمقاييس المطلوبة وأعطى نتيجة ...أربعين في الألف ، أي ضعف ما تدعيه الوزارة . هذا في منطقة في الساحل وبالقرب من كبرى الجامعات والمستشفيات . أما في تالة والقصرين والحامة وبئر سيدي علي ، فقد يكون ثلاثة مرات أكبر والمعدل الوطني بالضرورة أكبر من أربعين في الألف . لهذا السبب وليس فقط للأسباب السياسية المعروفة، حلّ الهادي مهني الوزير البوليسي القسم سنة 1994 وبعث لي سنة 2000 بقرار عزلي من الكلية.الشيء الثابت أنها نفس السياسة في كل الميادين ، أي حجب الحقيقة وتقديم صورة وردية بدلها تدلّ على النجاحات المطردة لبلد لا يعرف ما تعرفه بلدان العالم من مشاكل طبيعية وأزمات ومصاعب ونواقص. هذا العقل البدائي مركب على أحدث تقنيات المخابرات في التضليل ، هو الذي يبني حول وضعنا ستارا من الضباب والدخان يجعل التمعن فيه صعبا ، وهذا مما يجعلني متأكدا أن لا أحد يعلم اليوم في تونس الوضعية الحقيقية للتعليم وللصحة والبيئة وقد أضيف للتعقيد الطبيعي لهذه الميادين نية الغشّ في التعامل معها.الحصاد المرّلنتصور يوم التحرر ، يوم يكنس هذا النظام كنسا وتفتح كل الملفات والأفواه وتجتمع المختصون في كل المستويات لعملية Audit في كل الميادين .
مؤكد أننا سنصعق بحجم الخراب الذي أحدثه النظام البوليسي : خراب القضاء، خراب الصحافة، خراب الثقافة، خراب الإدارة، خراب التعليم ، خراب الصحة ، وخاصة خراب العقول التي تربت طوال عقدين على " قيم" الكذب والفساد والبذاءة والجهل والتملق والجبن والكسل والاستقالة الفردية .بخصوص الاقتصاد ما يبدو لي بديهيا من الآن أنهم سيكتشفون هول السرقات التي تعرض لها القطاع العام والخاص وخاصة أن الضرر الأخطر للفساد الذي ساد طوال حكم هذا الدكتاتور ضربه لمصداقية القانون ، ولقيم العمل والتفاني والإخلاص والإتقان، وكلها العمود الفقري للمواقف والتصرفات التي تشترط في اقتصاد ناجع ومجتمع سليم.ليسمح لي بالتذكير هنا أن ما يجهله و يتجاهله التوانسة والعرب هو أن التقدم الاقتصادي في بلدان كاليابان أو السويد أو الولايات المتحدة ، ليس فقط حصيلة موارد وتكنولوجيا وإنما محركه الأساسي جملة من القيم وكلها غائبة أو عكسها الموجود . بالطبع هذا لا يعني أن شعوب بلا أخلاق ، ولكن أنها من جهة ليست الأخلاق التي تصنع الثروة مثل حب العمل وإتقانه والتقشف والتواضع ، ومن جهة أخرى أن ابتلائنا بدكتاتوريين فاسدين أشاع التواكل والكسل والانتهازية والغش وكلها تصرفات تمنع أي اقتصاد سليم.الكارثة الثانية التي سيكتشفها الفحص الشامل دون صعوبة هو حجم المديونية التي سيتركها لنا عهد الدكتاتور والتبعات الكارثية للأمر.
القاعدة في الاقتصاد أنه عندما يكون الدين الخارجي نصف الناتج القومي الخام لبلد ، فإن هذا البلد يعتبر مفلسا ، ومن المفروض أنه لا يجوز إقراضه. أنظر الآن للأرقام التي يقدمها ....صندوق النقد الدولي حيث يقدّر بأن نسبة المديونية الخارجية التي بلغت 68 في المائة من الناتج القومي الخام ستصل إلى 47.5 في المائة سنة 2011. بعبارة أخرى لقد فتنا سنة 2005 السقف ، وبكثير من الجهد سنصل تحته قليلا ...وشبح الافلاس يتابعنا.حتى يقدر القارئ خطورة المديونية التونسية التي يصفها تقرير البنك الدولي لسنة 2007 باحتشام بأنها " ثقيلة نوعا ما" ، يجب أن نستحضر ثلاثة أرقام مستقاة من هذا التقرير ومن تقرير صندوق البنك الدولي لنفس السنة ويفترض أن نثق فيها لأن من يقرضون لا يكذبون بخصوص ما ينتظرون استرجاعه . 1-حجم المديونية سنة 2007 يقدر ب 18 مليار دولار أمريكي، أي قرابة نصف الناتج القومي الخام وهي كما قلنا النسبة التي تجعل بلدا على حافة الإفلاس.2-تونس هي البلد الخامس في المديونية في أفريقيا ، بعد مصر( 34 مليار،) جنوب افريقيا ( 31مليار) ، نيجيريا ( 22 مليار،) ، السودان ( 19 مليار). قارن بينا وبين مصر، فمديونيتنا ، ونحن عشرة ملايين، نصف مديونية بلد له سبعة أضعاف هذا العدد. قارن الآن مع المغرب وعدد سكانه ثلاثة أضعاف عددنا ، ومع هذا لا تتجاوز مديونيته 17 مليار ، وبنيته التحتية من مطارات وطرقات سيارة أحسن بكثير مما عندنا . معنى هذا أن أصحابنا في الحكم لا يتورعون عن إغراقنا بالديون لأنها أسهل الحلول .لقائل أن يقول هنا أن كل الدول تقترض وتعيش بالدين والمثال أمريكا. انتبه أن هذا البلد أسوأ مثال وسيدفع الثمن باهظا طال الزمان أو قصر ، وعلى كل حال شتان بين مديونية اقتصادات قوية ومراقبة ومظبوطة واقتصاد معجزاتي كالذي تعرفه تونس .
ماذا الآن تبعات هذه السياسة؟ إنها ببساطة مرعبة.3-تقول نفس التقارير أن خدمة الدين الخارجي كلفت الخزينة التونسية 8 مليارات من الدينارات في الخمسة عشر سنة الأخيرة - وبالطبع قد تكون الأرقام الصحيحة الضعف أو أكثر- . هذه الأموال التي تضخ للخارج هي بالضبط أربعة مرات ميزانية وزارات التعليم والصحة والثقافة والتعليم العالي والنقل والشؤون الاجتماعية والشباب والرياضة التي لا تستهلك مجتمعة إلا ملياري دينار سنويا. ترجموا هذه الأرقام لرؤيا مستقبلية . ما سيترك هذا النظام البائس لبلدنا هو خدمة دين يتضخم يوما بعد يوم لأنه لم يتحرج يوما من الاقتراض وهو يعلم أنه لن يكون موجودا عند حضور الدائنين. معنى هذا أن هذا النظام يحكم على الأجيال القادمة بالفقر والتخلف والتبعية لأن جزءا كبيرا من عرق جبينهم سيذهب لدفع الديون الهائلة التي كبلها بهم هذا الرجل وعصابته.قد يقال ما هذا التشاؤم فهذه الأجيال ستجد موارد كفيلة بدفع الديون ومواصلة التقدم . نعم في إطار تواصل معجزة وكرامات سيدي زين العابدين . بلد مكبل بالديون ، بمستوى تعليمي متدني ، بعقلية جشع واستهلاك واستقالة ، بفساد مستشري من القمة للقاعدة، بما لا يحصى من العمارات والنزل الفارغة ، بهجرة الأدمغة ، كل هذا في ظل ارتفاع أسعار المواد الأولية وخاصة البترول ناهيك عن الكارثة البيئية التي تتهددنا جميعا.هنا أريد أن أقول أمام التاريخ وكل التونسيين أنني أتهم الدكتاتور بن علي بأنه لم يكتفي بإرهاب شعب أعزل وإذلاله وسرقة ثرواته وتحطيم مؤسساته ونشر " قيمه" المسمومة ، وإنما ارتهن مستقبل أطفالنا وأحفادنا حتى يتواصل في الحكم وينعم بملذاته الرخيصة ، وأنه هو والعصابة المحيطة به ، وكل من يخدمونه بصفة مباشرة وغير مباشرة مصيبة على حاضر تونس وخاصة على مستقبلها.وأريد أن أتوجه لكل التونسيين والتونسيات بالقول أنكم ضحيتم بكرامتكم وحقوقكم من أجل السلامة لكنكم تحكمون على أطفالكم وأحفادكم بالمستقبل البائس وأنكم لا تضمنون لهم بسكوتكم عن المنكر إلا مجتمع بلا قيم وتعليم رديء وبطالة مستفحلة وثروة وطنية استولي على جلها اللصوص والباقي للدائنين .إن العالم الذي نتوجه إليه هو عالم " إعصاري" ستكون فيه كل الشعوب مثل زوارق تتقاذفها أمواج هائلة وهي لن تواجه ألأزمات الاقتصادية والبييئة والسياسية إلا متوحدة وفي ظل حكم بالغ الرشد وإلا فهو الغرق المضمون للجميع . هذا الغرق هو الذي الخطر المؤجل الذي يتهدد أطفالنا وأحفادنا وسيقولون أن لامسؤولية وجبن آباءهم هو الذي ضمن لهم الجحيم.فهل من هبة لمن لا زال بقلوبهم شمم ؟
(المصدر : موقع المؤتمر من اجل الجمهورية بتاريخ 2 أكتوبر 2008)

ليست هناك تعليقات: