16‏/11‏/2008

سيدي الرئيس حضرات القضاة الأفاضل،



إن اختيار الترافع في هذه القضية ليس بالأمر الهيّن على المحامي.
اختيار الترافع عن المتهمين جعلنا في حيرة لا تقلّ عن حيرة شيخ المعرّة لمّا قال:"في اللاذقية فتنة ما بين أحمد والمسيح...هذا بناقوس يدق وذلك بمئذنة يصيح ليت شعري مالصحيح ".

سيدي الرئيس،

في وقائع هاته القضية حادثة مؤسفة ومحيّرة حصلت بين ضابط عسكري وخارج عن القانون.. الضابط تلقى أوامر بالتوجه مع جنوده لجبل عين طبرنق لمحاربة المتمرّدين.. أخذ سلاحه وانطلق للقيام بواجبه وللدفاع عن سلطة الدولة والقانون وعن شرفه العسكري.. إلتقى الضابط في الجبل بالخارج عن القانون.

وجّه سلاحه نحوه ثم تراجع عن إطلاق النار عليه لمّا بدى له أنّه أعزل وحاول إلقاء القبض عليه حيّا.. لم يشأ أن يسيل دما.. لم يشأ أن يقتل ابن وطنه.

الخارج عن القانون، كان فارّا من القمع صعد للجبل اعتقادا منه أنّه يدافع عن نفسه... عن كرامته...عمّا يؤمن به. فهم أنّ الضابط سيحمله حتما لأعوان إدارة أمن الدولة أين سيكون مصيره التعذيب الوحشي الذي لا يطيقه إنسان... ففجّر قنبلة تناثرت على إثرها أشلاؤه وأشلاء ابن وطنه.

كيف لا نحتار في قضية كهذه؟ أيّ معركة هذه التي تقع بين شابين كهذين؟ من مثل النقيب فوزي الزياتي يعرّض حياته للخطر وابنته لليتم حتى لا يقتل ابن وطنه في حين أنّ غيره في هذه الظروف قد أطلق النار من بعيد حتى لا يعرّض نفسه لإحتمال القتل والجرح وربما من باب التنكيل؟ ومن مثل حسنين العيفة يدافع عن كرامته وما يؤمن به بالسلاح ويفضّل الموت على الإهانة؟

هاته المعركة وجب أن تكون الأخيرة في تونس. وأقول منذ البداية أنّ حكم محكمتكم الفاضلة يمكنه أن يساهم في ذلك.. أن يساهم في وضع حدّ لهذا الحقد.. حقد التونسي على أخيه التونسي.

سيدي الرئيس،
أتمسّك بمطالب ومرافعات زملائي في خصوص العرض على الفحص الطبّي للتثبت من حصول التعذيب وأضيف المطلب الشكلي الآتي: منذ مدّة في فرنسا صرّح نائب مدير الأمن الخارجي لصحيفة أنّه قد سمع بعض المعتقلين في غوانتنامو عند تنقله للمعتقل المذكور وبفتح تحقيق ضدّ المعنيّين في فرنسا تقدّم محاموهم بمطلب تحرير على المسؤول الأمني المذكور ومطالبته بنتيجة الأبحاث التي قام بها واستجابت المحكمة للطلب خلافا لما صرّحت به محكمة الجناب من عدم جدية اعتماد ما يذكر في الصحف.

السيد وزير الدّاخلية صرّح في دار التجمّع أن مصالح وزارته كانت على علم بدخول المجموعة المسلّحة من الجزائر وأنها كانت تراقبها لمعرفة شركائها. هذا الأمر لم يرد في ملف القضية المعروض على جنابكم. وهو أمر خطير، إن كان حقيقيّا. معرفته تساعد المحكمة على إقامة العدل وعلى حسن الفصل في القضية فالمسألة خطرة وغريبة إلى حدّ ما. كيف تترك مجموعة مسلّحة دون إلقاء القبض عليها حينا.. دخلوا من الحدود ووصل بهم الأمر إلى الإجتماع في عين طبرنق.. كان يمكن أن يقوموا بتفجير أو اعتداء ما يذهب بالأرواح قبل إلقاء القبض عليهم. إنّ في الأمر سرّا لا يمكن الحكم في هذه القضية دون كشفه لذا فالرجاء من المحكمة استدعاء السيّد وزير الدّاخلية لسماعه في الموضوع من طرف قاض مقرّر.
في الأصل: أتمسّك بمرافعات زملائي طالبا الحكم بعدم سماع الدعوى واحتياطيا ألاحظ أمرا في خصوص جريمة الإعتداء: خلافا لما ورد في حكم البداية من كون المنوبين قد ارتكبا جريمة حمل السّكان على مهاجمة بعضهم بعضا طبقا للفصل72 من المجلة الجزائية فإنّ الفصل المذكور لم يجرّم هاته الفعلة وإنّما جرّم بصريح العبارة الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة أو حمل السّكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسّلاح أو إثارة الهرج والقتل والسلب بالتّراب التونسي. فحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا ليس سوى ركنا قصديا خاصا لجريمة الإعتداء. وعبارة الإعتداء، هي الترجمة لعبارة "Attentat" الواردة بالفصل86 من مجلة الجزائية الفرنسية القديمة الذي اقتبس منه الفصل 72 من المجلة التونسية والتي قصد بها المشرع القيام بعمل جماعي عنيف. وليدخل هذا الإعتداء تحت طائلة الفصل72 لا بدّ أن يكون القصد منه تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح أو إثارة الهرج والقتل والسلب.

سيدي الرئيس،
المنوّب وائل عمامي لم يتواجد إطلاقا في عين طبرنق فهو كما ورد بالملف القي القبض عليه قبل انطلاق أعمال العنف أمّا المنوّب عماد بن عامر فإنّه على افتراض مساهمته الواعية في أعمال العنف في الجبل فإن من الثابت أن ما حصل-وبقطع النظر عن غايات التجمّع في الجبل- ما كان ليحصل لولا تفطن السلطات ولقيامها بمهاجمة المجموعة. قد تكون الجماعة خططت للقيام باعتداء إثر التوافق والتدرّب في الجبل ولكنّ العنف الذي مارسه بعض أفرادها ضدّ أعوان الأمن والجيش كان ردّ فعل حيني غير مخطط له مسبقا وبالتالي فإنّه لم يشكل سوى جرائم العصيان والقتل ومحاولة القتل بالنسبة لمن ساهم في ذلك لا الاعتداء على معنى الفصل 72 من المجلة الجزائية لذلك نرجو من المحكمة نقض الحكم الابتدائي والقضاء مجددا بعدم سماع الدعوى في هذه الجريمة.

سيدي الرئيس حضرات القضاة الأفاضل،
بصفة احتياطية جدّا وعلى فرض اقتناع المحكمة بثبوت إدانة المنوبين نلاحظ للجناب أن عقوبة الإعدام المحكوم بها ابتدائيا ضدّ المنوّب عماد بن عامر هي عقوبة قاسية ولا إنسانية تعبّر عن مرحلة تاريخية تجاوزها العقل البشري وتخلّت عنها معظم الأمم المتحضّرة. كما ألاحظ أنّ هذه العقوبة وإن بقيت في تشريعنا فإنّها لم تعد تنفّذ في تونس منذ سنوات والسيد رئيس الدولة الذي له صلاحية العفو أو رفضه والإذن بالتنفيذ أو العفو صرّح بأنه لن يوقع على حكم إعدام فاسمحوا لي بأن ألفت انتباه المحكمة إلى أن النطق بهذه العقوبة دون تنفيذها يجعل المحكوم عليه يتمنّى الموت يوميّا فالمحكومون بالإعدام في بلادنا ولمبرّر غير مقنع وغير قانوني يحرمون من زيارة ومراسلة ذويهم ومن تلقّي القفة. وبالنسبة لمن كان مثل منوّبي فإنّه لا محالة سيعزل عن بقيّة المساجين وهي وضعية أكثر لا إنسانية من تنفيذ حكم الإعدام لذلك فإني أناشدكم تخفيف العقزبة في حقّه.

سيدي الرئيس حضرات القضاة الأفاضل،
طبقا للقانون يحضر أحد قضاة المحكمة تنفيذ عملية الإعدام. وأؤكد لكم أنّ منوبي عماد بن عامر إذا ما وضع على منصة الإعدام -لا قدّر الله- قد يضحك مستهزئا بالعقوبة ولن يوليها اهتماما وقد يتراءى له ساعتها أنّه على حقّ في ممارسة العنف.
بالأمس زوجة محاميه - في إطار نشاط حقوقي- توجهت لعائلته لتستفسرها عما تتعرّض له من مضايقات فاقتحم البوليس المنزل وأخرجها بالقوة وأهانها. محاميه كان ينتظر زوجته في العاصمة تعرّض بدوره لاعتداء وراسل أعلى سلطة في الدولة واشتكى لوكيل الجمهورية. ولو سألنا كلّ المحامين هنا هل أنّ زميلهم محامي عماد يمكنه أن يحصل على حقه في اقتصاص الدولة له ممن أخطأ في حقّه، سيجمعون على قول لا. إذن هذا المتهم الواقف أمامكم متيقن من أن محاميه ورجال القانون في بلاده لا يمكنهم أن يأخذوا حقهم بالقانون فلماذا يعدم إذا ما خرج بدوره عن القانون ولجأ للعنف لأخذ حقه. عقوبة الإعدام يجب استبعادها وخاصة في مثل هذه القضية.

سيدي الرئيس،
على فرض أنّ المنوّب قد سمح لنفسه بالقيام بأعمال عنف ضدّّ الدولة فإنّه لا بدّ من فهم الظروف التي دفعته لإرتكاب الجريمة وهذا في حدود الفصل 53 من المجلة الجزائية المتعلق بظروف التخفيف.

المنوّب كان ينتمي لجماعة التبليغ والدعوة وهي جماعة لا تولى أي اهتمام للسياسة ومن باب أولى وأحرى للعنف السياسي وهو قد ذكر لكم ما تعرّض له من إهانة من طرف أعوان الأمن الذين عمد بعضهم لضربه ونتف لحيته وإشعالها بولاعة كما أن أحد المتهمين في هذه القضية قال لمّا سألته المحكمة عن سبب احتفاظه بمسدّس أن أعوان الأمن قد هدّدوه باغتصاب زوجته ونزع خمارها وأنّ له أن يستعمل سلاحه ضدّ كلّ من يعتدي على زوجته.وهذا في الحقيقة كلام يليق بغابة لا بمجتمع منظم بقوانين وفيه دولة.
كان عليه من حيث المبدأ أن يشتكي للسلط المعنية لحمايته ولكنه لم يفعل واقتنى مسدّسا. لكن السؤال الذي يطرح هنا هو ماذا كان سيحصل لو التجأ لمؤسسات الدّولة؟
أؤكّد لكم أنّه لو التجأ لوكيل الجمهورية لما حرّك الدعوى ضدّ من أهانه واعتدى عليه.. لو اشتكى للشرطة لكان مصيره الضرب والإهانة لو اشتكى للحرس الوطني لحصل له نفس الشئ. هاته المسألة شديدة الخطورة ولا بّد من التفكير فيها عند تقدير العقوبة.
(المحكمة مقاطعة: "المحامي رجل قانون لا يمكن أن يبرّر العنف".)

يا جناب الرئيس، أنا أرافع في ظروف التخفيف ولا أبرّر العنف وأرجو أن يقع حلّ هذه المعضلة في المستقبل حتّى لا يصل رجال القانون يوما لتبرير العنف. فمن المفروض أن لا يتمنى أحد حصول ضرر لأيّ تونسي جرّاء أعمال عنف بما في ذلك لأعوان الأمن الذين نتمنّى لهم ولكلّ التونسيين خيرا والذين يستحقون الاحترام منّا عند قيامهم بواجبهم. فهؤلاء أبطال يقدّمون تضحيات ويعملون في ظروف شاقة لحماية أمن المواطنين ويتعرضون لمخاطر، إلاّ أنّ جزءا منهم يتحوّل لسوء الحظ من حين لآخر لعصابات خارجة عن القانون لاعتبارات سياسية معلومة.
أمّا في خصوص تبرير العنف من حيث المبدأ فإنّي أقرأ عليكم ما كتب أحد أبرز رجال القانون الفرنسيين الفقيه أميل جرسون "إذا خرقت الدولة الدستور بشكل فاضح فإنّ مقاومتها بالعنف تصبح مبرّرة ".. أرجو أن لا يضطرّ تونسي واحد لإيجاد تبرير للعنف في المستقبل وذلك رهين إرادة سياسية لتطبيق القانون على الجميع وحماية حرمة المواطنين وأملاكهم وأعراضهم وهو أمر يتجاوز دور هذه المحكمة إلاّ أنّنا ننتظر من جنابكم حكما يساهم في بناء مستقبل أفضل بتلطيف حالة الحقد التي بدأت تسود في وطننا.. حكم محكمتكم الفاضلة، نرجو أن يكون متوازنا ومراعيا للظروف الإستثنائية للواقعة وأنقل لكم واقعة حصلت لي مع منوبي عماد لمّا زرته في سجنه. أعطيته قانون دعم المجهود الدولي لمقاومة الإرهاب وأريت له فصلا ينص على أنّه إذا ثبت أن من ارتكب جرائم إرهابية قد جرّ لإرتكاب هذه الجرائم فإنّه يعاقب بأخفّ عقوبة ممكنة قانونا. قرأ هذا الفصل وشرحته له وقلت له أنّه يجب أنّ يفكر الليلة فيما سيقوله للمحكمة حول سبب وجوده في الجبل وفوضت له اختيار دفاعه في هاته المسألة.

وعندما سألته المحكمة في الغد إن كان المتوفّى لسعد ساسي قد أرغمه... على البقاء في الجبل أجاب بكّل تلقائية أنّه سأل المذكور إن كان يمكنه مغادرة الجبل فأجابه أن يستحسن أن ينتظر ولم يقل في حق شخص ميّت أنّه قد أرغمة لم يكذب رغم أنّه في طريق المشنقة. انظروا ماذا فعلنا بأحد أبنائنا ممّن هم على خلق عظيم دفعناه للعنف دفعا والآن نعامله كأقبح المجرمين ونحكم عليه بالإعدام أناشدكم يا جناب الرئيس مجدّدا أن لا تعدموا منوّبي وأن يكون حكمكم رسالة سلام وأمل لكلّ من امتلأت قلوبهم حقدا أيّا كان موقعهم.


Mohamed Abbou

ليست هناك تعليقات: